الدنيا ويوحى إلى السحاب أن غربله فيغربله فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان من ماء فإنه نزل بلا كيل ولا وزن كذا في تفسير "التيسير" ﴿فِيهِ﴾ أي : في الصيب ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ أنواع منها وهي ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة أظلال ما يلزمه من الغمام المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وليس في الآية ما يدل على ظلمة الليل لكن يمكن أن يؤخذ ظلمة الليل من سياق الآية حيث قال تعالى بعد هذه الآية :﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ وبعده ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ فإن خطف البرق البصر إنما يكون غالباً في ظلمة الليالي وكذا وقوف الماشي عن المشي إنما يكون إذا اشتد ظلمة الليل بحيث يحجب الأبصار عن إبصار ما هو أمام الماشي من الطريق وغيره وظلمة سحمة السحاب وتكاثفه في النهار لا يوجب وقوف الماشي عن المشي كذا في "حواشي ابن التمجيد".
وجعل المطر محلاً للظلمات مع أن بعضها لغيره كظلمة الغمام والليل لما أنهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة في شدته وتهويلاً لأمره وإيذاناً بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام ورفع ظلمات بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف لأن الجملة في محل الجر صفة لصيب على وجه ﴿وَرَعْدٌ﴾ هو صوت قاصف يسمع من السحاب ﴿وَبَرْقٌ﴾ هو ما يلمع من السحاب إذا تحاكت أجزاؤه وكونهما في الصيب مع أن مكانهما السحاب باعتبار كونهما في أعلاه ومنصبه وملتبسين في الجملة به ووصول أثرهما إليه فهما فيه والمشهور بين الحكماء أن الرعد يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض أو من إقلاع بعضها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياح إياها سوقاً عنيفاً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦
والصحيح الذي عليه التعويل ما روي عن الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال عليه السلام :"ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه بها حيث شاء الله" فقالوا : فما هذا الصوت الذي يسمع قال :"زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر" فقالوا : صدقت فالمراد بالرعد في الآية صوت ذلك الملك لا عينه كما في بعض الروايات من (أن الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر وأنه يجوز الماء في نقرة إبهامه وأنه يسبح الله فإذا سبح الله لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل القطر) انتهى والمراد بالبرق ضربه السحاب بتلك المخاريق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً أريد أنها آلة تزجر بها الملائكة السحاب.
قال مرجع الطريقة الجلوتية بالجيم الشيخ الشهير بافتاده افندى البروسوي التوفيق بين قول الحكماء وبين قوله صلى الله عليه وسلّم "إن الرعد صوت ملك على شكل النحل" هو أنه يصيح من خارج هذا العالم ولكن يدخل فيه ويؤثر في داخله فنحن نسمع من داخله كما أن واحداً إذا أكل شيئاً نفاخاً يحصل في داخله رياح ذات أصوات فمنشؤها من الخارج وظهورها في الداخل فكلام النبي صلى الله عليه وسلّم ناظر إلى مبدئها وكلام الحكماء ناظر إلى مظهرها.
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم﴾ الضمائر للمضاف المحذوف لأن التقدير أو كأصحاب صيب كما سبق ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يوذن
٧٠
بالشدة والهول فكأن قائلاً قال : كيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم والمراد أناملهم وفيه من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل كأنهم يدخلون من شدة الحيرة أصابعهم كلها في آذانهم لا أناملها فحسب كما هو المعتاد ويجوز أن يكون هذا إيماء إلى كمال حيرتهم وفرط دهشتهم وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النهج المعتاد وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتاد أعني : السبابة وقيل لرعاية الأدب لأنها فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والمهللة وغيرهما ولم يذكر من أمثال هذه الكنايات لأنها ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد ﴿مِّنَ الصَّوَاعِقِ﴾ متعلق بيجعلون أي : من أجل خوف الصواعق المقارنة للرعد وهي جمع صاعقة وهي قصفة رعد هائل تنقض معها شعلة نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه لكنها مع حدتها سريعة الخمود للطافتها ـ حكي ـ أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦
قالوا بين السماء وبين الكلة الرقيقة التي لا يرى أديم السماء إلا من ورائها نار منها تكون الصواعق تخرج النار فتفتق الكلة ويكون الصوت منها كما في "روضة العلماء".


الصفحة التالية
Icon