من أن رحمتي البسملة ذاتيتان ورحمتي الفاتحة صفاتيتان كماليتان، والثاني ليعلم أن التسمية ليست من الفاتحة ولو كانت منها لما أعادهما لخلو الإعادة عن الفائدة، والثالث أنه ندب العباد إلى كثرة الذكر فإن من علامة حب الله حب ذكر الله وفي الحديث :"من أحب شيئاً أكثر ذكره"، والرابع : أنه ذكر رب العالمين فبين أن رب العالمين هو الرحمن الذي يرزقهم في الدنيا الرحيم الذي يغفر لهم في العقبى ولذلك ذكر بعده مالك يوم الدين يعني أن الربوبية إما بالرحمانية وهي رزق الدنيا وإما بالرحيمية وهي المغفرة في العقبى، والخامس أنه ذكر الحمد وبالحمد، تنال الرحمة فإن أول من حمد الله تعالى من البشر آدم عطس فقال : الحمدوأجيب للحال يرحمك ربك ولذلك خلقك فعلم خلقه الحمد وبين أنهم ينالون رحمته بالحمد، والسادس أن التكرار للتعليل لأن ترتيب الحمد على هذه الأوصاف إمارة علية مأخذها فالرحمانية والرحيمية من جملتها لدلالتهما على أنه مختار في الإحسان لا موجب في ذلك استيفاء أسباب استحقاق الحمد من فيض الذات برب العالمين وفيض الكمالات بالرحمن الرحيم ولا خارج عنهما في الدنيا وفيض الأثوبة لطفاً والأجزية عدلاً في الآخرة ومن هذا يفهم وجه ترتيب الأوصاف الثلاثة، والفرق بين الرحمن والرحيم إما باختصاص الحق بالأول أو بعمومه أو بجلائل النعم فعلى الأول هو الرحمن بما لا يصدر جنسه من العبادة والرحيم بما يتصور صدوره منهم فذا كما روي عن ذي النون قدس سره : وقعت ولولة في قلبي فخرجت إلى شط النيل فرأيت عقرباً يعدو فتبعته فوصل إلى ضفدع على الشط فركب ظهره وعبر به النيل فركبت السفينة واتبعته فنزل وعدا إلى شاب نائم وإذا أفعى بقربه تقصده فتواثبا وتلادغا وماتا وسلم النائم ويحكى أن ولد الغراب إذا خرج من القشر يكون كلحم أحمر ويفر الغراب منه فيجتمع عليه البعوض فيلتقمه إلى أن ينبت ريشه فعند ذلك تعود الأم إليه ولهذا قيل : يا رازق النعاب في عشه وإما على أن الرحمن عام.
فقيل : كيف ذلك وقلما يخلو أحد بل حالة له عن نوع بلوى؟ قلنا : الحوادث منها ما يظن أنه رحمة ويكون نقمة وبالعكس قال الله تعالى :﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْاًا﴾ (النساء : ١٩) الآية فالأول كما قال :
إن الشباب والفراغ والجده
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣
مفسدة للمرء أي مفسده
وكل منها في الظاهر نعمة والثاني كحبس الولد في المكتب وحمله على التعلم بالضرب وكقطع اليد المتأكلة فالأبله يعتبر بالظواهر والعاقل ينظر إلى السرائر فما من بلية ومحنة إلا وتحتها رحمة ومنحة وترك الخير الكثير للشر القليل شر كبير فالتكاليف لتطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية وخلق النار لصرف الأشرار إلى أعمال الأبرار وخلق الشيطان لتميز المخلصين من العباد، فشأن المحقق أن يبني على الحقائق كالخضر عليه السلام في قصة موسى عليه السلام معه فكل ما يكره الطبع فتحته أسرار خفية وحكمة بالغة فلولا الرحمة وسبقها للغضب لم يكن وجود الكون ولما ظهر للاسم المنعم عين.
وإما على أن الرحمن لجلائل النعم فإنما أتبعه بالرحيم لدفع توهم أن يكون طلب العبد الشيء اليسير سوء أدب كما قيل لبعضهم : جئتك لحاجة يسيرة قال : اطلب لها رجلاً يسيراً فكأن الله يقول : لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت عني ولكني رحيم فاطلب مني حتى شراك نعلك وملح قدرك.
قال الشيخ السعدي قدس سره العزيز :
محالست اكر سربرين درنهى
كه باز آيدت دست حاجت تهى
١٤
قال أهل الحقيقة الحضرات الكلية المختصة بالرحمن ثلاث : حضرة الظهور، وحضرة البطون، وحضرة الجمع، وكل موجود فله هذه المراتب ولا يخلو عن حكمها وعلى هذه المراتب تنقسم أحكام الرحمة في السعداء والأشقياء والمتنعمين بنفوسهم دون أبدانهم كالأرواح المجردة وبالعكس والجامعين بين الأمرين وكذا من أهل الجنة منهم سعداء من حيث نفوسهم بعلومهم دون صورهم لكونهم لم يقدموا في الجنة ما يستوجبون به النعيم الصوري وإن كان فنزر يسير بالنسبة إلى من سواهم وعكس ذلك كالزهاد والعباد الذين لا علم لهم فإن أرواحهم قليلة الحظ من النعيم الروحاني لعدم المناسبة بينهم وبين الحضرات العلمية الإلهية ولهذا لم تتعلق هممهم زمان العمل بما وراء العمل بل ظنوه الغاية فوقفوا عنده واقتصروا عليه رغبة فيما وعدوا به ورهبة مما حذرو منه وأما الجامعون بين النعيمين تماماً فهم الفائزون بالحظ الكامل في العلم والعمل كالرسل عليهم الصلاة والسلام ومن كملت وراثته منهم أعني الكمل من الأولياء : قال المولى جلال الدين قدس سره :
هركبوتر مى رد درمذهبي
وين كبوتر جانب بى جانبي
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣


الصفحة التالية
Icon