المائدة : ٨٣) الآية ولما لاح لهم أنوار السعادة خرجوا من ظلمات الطبيعة وتمسكوا بحبل الإرادة لينالوا درجات الفائزين ولكن يجعلون أصابعهم أي : أصابع آمالهم الفاسدة وأمانيهم الباطلة ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ الواعية ﴿مِّنَ الصَّوَاعِقِ﴾ ودواعي الحق ﴿حَذَرَ﴾ من ﴿الْمَوْتُ﴾ موت النفس لأن النفس سمكة حياتها بحر الدنيا وماء الهوى لو أخرجت لماتت في الحال وهذا تحقيق قوله عليه السلام :"موتوا قبل أن تموتوا" ﴿وَاللَّهُ مُحِيطُ بِالْكَافِرِينَ﴾ فيه إشارة إلى أن الكافر الذي له حياة طبيعية حيوانية لو مات بالإرادة من مألوفات الطبيعة لكان إحياء الله تعالى بأنوار الشريعة كما قال تعالى :
٧٣
﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ (الأنعام : ١٢٢) فلما لم يمت بالإرادة فالله محيط بالكافرين أي : مهلكهم ومميتهم في الدنيا بموت الصورة وموت القلب وفي الآخرة بموت العذاب فلا يموت فيها ولا يحيى ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ أي : نور الذكر والقرآن ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أي : أبصار نفوسهم الأمارة بالسوء ﴿كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم﴾ نور الهدى.
﴿مَّشَوْا فِيهِ﴾ سلكوا طريق الحق بقدم الصدق ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾ ظلمات صفات النفس وغلب عليهم الهوى ومالوا إلى الدنيا.
﴿قَامُوا﴾ أي : وقفوا عن السير وتحيروا وترددوا وتطرقت إليهم الآفات واعترتهم الفترات واستولى عليهم الشيطان وسولت لهم أنفسهم الشهوات حتى وقوا في ورطة الهلاك ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ﴾ أي : لو كانت إرادته أن يهديهم ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ أي : بسمع نفوسهم التي تصغى إلى وساوس الشيطان وغروره ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي : أبصار نفوسهم التي بها تنظر إلى زينة الدنيا وزخارفها كقوله تعالى :﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ (السجدة : ١٣) ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي : قادر على سلب أسماعهم وأبصارهم حتى لا يسمعوا الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ولا يبصروا المزخرفات الدنيوية والمستلذات الحيوانية لكيلا يغتروا بها ويبيعوا الدين بالدنيا ولكن الله يفعل بحكمته ما يشاء ويحكم بعزته ما يريد انتهى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧١
يا أَيُّهَا النَّاسُ} الآية مسوقة لإثبات التوحيد وتحقيق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام اللذين هما أصل الإيمان.
والناس يصلح اسماً للمؤمنين والكافرين والمنافقين، والنداء تنبيه الغافلين أو إحضار الغائبين وتحريك الساكنين وتعريف الجاهلين وتفريغ المشغولين وتوجيه المعرضين وتهييج المحبين وتشويق المريدين.
قال بعض العارفين أقبل عليهم بالخطاب جبراً لما في العبادة من الكلفة بلذة الخطاب أي : يا مؤنس لا تنس أنسك بي قبل الولادة أو يا ابن النسيان تنبه ولا تنس حيث كنت نسياً منسياً ولم تك شيئاً مذكوراً فخلقتك وخمرتك طيناً ثم نطفة ثم دماً ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ولحوماً وعروقاً وجلوداً وأعصاباً ثم جنيناً ثم طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً وأنت فيما بين ذلك تتمرغ في نعمتي وتسعى في خدمة غيري تعبد النفس والهوى وتبيع الدين بالدنيا لا تنس من خلقك وجعلك من لا شيء شيئاً مذكوراً كريماً مشكوراً علمك وقواك وأكرمك وأعطاك ما أعطاك فهذا خطاب للنفس والبدن.
قال في "التيسير" : وإذا كان الإنسان من النسيان ففيه عتاب وتلقين أما العتاب فكأنه يقول : أيها الناس قابلتم نعمنا بالكفران وأوامرنا بالعصيان وأما التلقين للعذر فكأنه يقول : أيها المخالف لنا ناسياً لا عامداً وساهياً لا قاصداً عذرناك لنسيانك وعفونا عنك لإيمانك.
﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ يقول للكفار وحدوا ربكم ويقول للعاصين أطيعوا ربكم ويقول للمنافقين أخلصوا بالتوحيد معرفة ربكم ويقول للمطيعين أثبتوا على طاعة ربكم واللفظ يحتمل لهذه الوجوه كلها وهو من جوامع الكلم كما في "تفسير أبي الليث".
والعبادة استفراغ الطاعة في استكمال الطاعة واستشعار الخشية في استبعاد المعصية ﴿الَّذِى خَلَقَكُمْ﴾ صفة جرت عنه للتعظيم والتعليل معناه أطيعوا ربكم الذي خلقكم لخلقكم ولم تكونوا شيئاً.
والخلق اختراع الشيء على غير مثال سبق.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤
خلق ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي : من زمن قبل زمانكم من الأمم فمن ابتدائية متعلقة بمحذوف وفي الوصف به إيماء إلى سبب وجوب عبادته تعالى فإن خلق
٧٤


الصفحة التالية
Icon