أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم وفيه دلالة على شمول القدرة وتنبيه من سنة الغفلة، أي : أنهم كانوا فمضوا وجاؤوا وانقضوا فلا تنسوا مصيركم ولا تستجيزوا تقصيركم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ حال من ضمير اعبدوا أي : راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدي والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى.
ولعل للترجي والأطماع وهي من الله تعالى واجب لأن الكريم لا يطمع إلا فيما يفعل والأولون والآخرون مخاطبون بالأمر بالتقوى وخص المخاطبين بالذكر تغليباً لهم على الغائبين كما في "الكواشي".
وفيه تنبيه على أن التقوى منتهى درجة السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء كما قال تعالى :﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ (السجدة : ١٦).
﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾ (الإسراء : ٥٧) قال السعدي قدس سره :
اكر مردى از مردىء خود مكوى
نه هر شهسواري بدر برد كوى
يعني ليس كل عابد يخلص إيمانه بسبب عبادته.
﴿الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ﴾ صفة ثانية لربكم.
قال أهل اللغة الأرض بساط العالم وبسيطها من حيث يحيط بها البحر الذي هو البحر المحيط أربعة وعشرون ألف فرسخ كل فرسخ ثلاثة أميال وهو اثنا عشر ألف ذراع بالذراع المرسلة وكل ذراع ست وثلاثون أصبعاً كل أصبع ست حبات شعير مصفوفة بطون بعضها إلى بعض فللسودان اثنا عشر ألف فرسخ وللبياض ثمانية وللفرس ثلاثة وللعرب ألف كذا في "كتاب الملكوت" وسمت وسط الأرض المسكونة حضرة الكعبة وأما وسط الأرض كلها عامرها وخرابها فهو الموضع الذي يسمى قبة الأرض وهو مكان يعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد ويستوي الليل والنهار أبداً لا يزيد أحدهما على الآخر كما في "الملكوت".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : إنما سميت الأرض أرضاً لأنها تتأرض ما في بطنها يعني : تأكل ما فيها وقال بعضهم لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام ﴿فِرَاشًا﴾ ومعنى جعلها فراشاً جعل بعضها بارزاً من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين صالحة للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونها سطحاً حقيقياً وهو الذي له طول وعرض فإن كرية شكلها مع عظم جرمها مصححة لافتراشها جعل ﴿السَّمَآءِ﴾ وهو ما علاك وأظلك ﴿بِنَآءً﴾ قبة مضروبة عليكم وكل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة والسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض كما في "تفسير أبي الليث".
﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً﴾ أي : مطراً ينحدر منها على السحاب ومنه على الأرض وهو رد لزعم أنه يأخذه من البحر ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ أي : أنبت الله بسبب الماء الذي أنزل من السماء.
﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ هي ههنا المأكولات كلها من الحبوب والفواكه وغيرها مما يخرج من الأرض والشجر كما في "التيسير".
﴿رِزْقًا لَّكُمْ﴾ وذلك بأن أودع في الماء قوة فاعلية وفي الأرض قوة منفعلة فتولد من تفاعلهما أصناف الثمار فبين المظلة والمقلة شبه عقد النكاح بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزاقاً لبني آدم ومن للبيان ورزقاً أي : طعاماً وعلفاً لكم ولدوابكم والمعنى أن الله تعالى أنعم عليكم بذلك كله لتعرفوه بالخالقية
٧٥
والرازقية فتوحدوه ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا﴾ جمع ند وهو المثل أي : أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله يعني لا تقولوا له شركاء تعبد معه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تقولوا لولا فلان لأصابني كذا ولولا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إياكم ولو فانه من كلام المنافقين قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا"، قال السعدي :
اكر عز وجاهست اكر ذل وقيد
من أزحق شناسم نه از عمرو وزيد
﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن الله هو الذي خلقكم ومن قبلكم وخلق السماء والأرض وخلق الأرزاق دون الأصنام فإنها لا تضر ولا تنفع والوعظ الكلي أنه قال في الآية :﴿جَعَلَ لَكُمُ﴾ وقال :﴿رِزْقًا لَّكُمْ﴾ فلو قال لك في القيامة فعلت كذا كله لكم فما فعلتم لي فما تقول.
وعن الشبلي رحمه الله أنه وعظ يوماً الناس فأبكاهم لما ذكر من القيامة وأهوالها فمر بهم أبو الحسين النوري قال : لا تفزعهم فإن حساب يومئذ ليس بهذا الطول إنما هو كلمتان "من ترا بودم تو كرا بودي" وأفادت الآية أنه ينبغي الإخلاص في العبادة بترك ملاحظة الأغيار وبشهود خالق الليل والنهار.
قال السعدي :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤
كرت بيخ إخلاص در بوم نيست
درين در كسى ون تو محروم نيست


الصفحة التالية
Icon