وفي "الكشاف" : لصيق اتقاء النار وضميمه ترك العناد من حيث أنه من نتائجه لأن من اتقى النار ترك المعاندة فوضع فاتقوا النار موضع فاتركوا العناد ﴿الَّتِى وَقُودُهَا﴾ أي : حطبها وهو ما يوقد به النار ﴿النَّاسُ﴾ أي : العصاة ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ أي : حجارة الكبريت وإنما جعل حطبها منها لسرعة وقودها أي : التهابها وبطء خمودها وشدة حرها وقبح رائحتها ولصوقها بالبدن أو الحجارة هي الأصنام التي عبدوها وإنما جعل التعذيب بها ليتحققوا أنهم عذبوا بعبادتها وليروا ذلها ومهانتها بعد اعتقادهم عزها وعظمتها والكافر عبد الصنم واعتمده ورجاه فعذب به إظهاراً لجهله وقطعاً لأمله كاتباع الكبراء خدموهم ورجوهم وفي النار يسحبون معهم ليكون أشق عليهم وأقطع لرجائهم.
فإن قلت أنار الجحيم كلها توقد بالناس والحجارة أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟ قلت : بل هي نار شتى منها نار توقد بالناس والحجارة يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى :﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ (التحريم : ٦) ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ (الليل : ١٤) ولعل لكفار الجن ولشياطينهم ناراً وقودها الشياطين كما أن لكفرة الإنس ناراً وقودها هم جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب.
﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي : هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عدة لعذابهم.
وفيه دلالة على أن النار مخلوقة موجودة الآن خلافاً للمعتزلة وفي الآية إشارة إلى أن ثمرة الأخذ بالقرآن والإقرار به وبمحمد صلى الله عليه وسلّم هو النجاة من النار التي وقودها الناس والحجارة وفيه زيادة فضل القرآن وأهله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٩
قال البغوي عند قوله تعالى :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ قيل : السورة اسم للمنزلة الرفيعة وسميت سورة لأن القارىء ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يرجع أتباع إبليس كل عشية إلى سيدهم فيقول كل واحد منهم بين يديه فعلت كذا وغررت فلاناً الزاهد حتى يقول أصغرهم : أنا منعت صبياً من الكتاب فيقوم إبليس بين يديه ويقعده إلى جنبه فرحاً بما فعل وقالت الحكماء حق الولد على أبويه ثلاثة : أن
٨٠
يسمياه باسم حسن عند الولادة وأن يعلماه القرآن والأدب والعلم وأن يختناه ثم أن المقصد الأصلي هو العمل بالقرآن والتخلق بآدابه كما قيل :
مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست
نه ترتيل سورة مكتوب
وللقرآن ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن قال في "المثنوي" :
تو ز قرآن أي : سر ظاهر مبين
ديو آدم را نبيند جزكه طين
ظاهر قرآن و شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
قال الشيخ نجم دايه فظاهره يدل على ما فسره العلماء وباطنه يدل على ما حققه أهل التحقيق بشرط أن يكون موافقاً للكتاب والسنة ويشهدا عليه بالحق فإن كل حقيقة لا يشهد عليها الكتاب والسنة فهي إلحاد وزندقة لقوله تعالى :﴿وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام : ٥٩) وقال أيضاً في تأويل الآية :﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ جعل الله إعراض المعرضين قباب غيرته لحبيبه المرسل لئلا يشاهدوا من الله حبيبه وجعل اعتراض المعترضين سرادقات عزته لئلا يطلعوا على الله وكتابه وسماه عليه السلام بالعبد المطلق ولم يسم غيره إلا بالعبد المقيد باسمه كما قال :﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ﴾ (ص : ٤١) ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ﴾ (ص : ١٧) وغيرهما وذلك لأن كمال العبودية ما تهيأ لأحد من العالمين إلا لحبيبه عليه السلام وكمال العبودية في كمال الحرية عما سوى الله وهو مختص بهذه الكرامة كما أثنى عليه بقوله :﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ (النجم : ١٧) فائتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله أي : الحاضرين معكم يوم الميثاق لأنكم وأنهم ومحمداً كنتم جميعاً مستمعين خطاب ألست بربكم مجتمعين في جواب بلى فلو كان محمد قادراً على إتيان القرآن من تلقاء نفسه فهو وأنتم في الاستعداد الإنساني الفطري سواء فائتوا بالقرآن من تلقاء أنفسكم أيضاً
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٩