ثم الجنان ثمان : دار الجلال كلها من نور مدائنها وقصورها وبيوتها وأوانيها وشرفها وأبوابها ودرجها وغرفها وأعاليها وأسافلها وخيامها وحليها وكل ما فيها، ودار القرار كلها من المرجان، ودار السلام كلها من الياقوت الأحمر، وجنة عدن من الزبرجد كلها وهي قصبة الجنة وهي مشرفة على الجنان كلها، وباب جنة عدن مصراعان من زمرد وياقوت ما بين المصراعين كما بين المشرق والمغرب، وجنة المأوى من الذهب الأحمر كلها، وجنة الخلد من الفضة كلها، وجنة الفردوس من اللؤلؤ كلها وحيطانها لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد وملاطها وما يجعل بين اللبنتين مكان الطين المسك وقصورها الياقوت وغرفها اللؤلؤ ومصاريعها الذهب وأرضها الفضة وحصباؤها المرجان وترابها المسك ونباتها الزعفران والعنبر، وجنة النعيم من الزمرد كلها.
وفي الخبر "إن المؤمن إذا دخل الجنة رأى سبعين ألف حديقة في كل حديقة سبعون ألف شجرة على كل شجرة سبعون ألف ورقة وعلى كل ورقة لا إله إلا الله محمد رسول الله أمة مذنبة ورب غفور كل ورقة عرضها من مشرق الشمس إلى مغربها" ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ﴾ الجملة صفة لجنات والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل نهر مصر والمراد بها ماؤها.
فإن قلت : كيف جري الأنهار من تحتها؟ قلت : كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية وعن مسروق أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود وهو الشق من الأرض بالاستطالة وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة والأنهار في خلالها مطردة ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى وأن الرياض وإن كانت أحسن شيء لا تجلب النشاط حتى يجري فيها الماء وإلا كان السرور الأوفر مفقوداً وكانت كتماثيل لا أرواح لها وصور لا حياة لها لما جاء الله بذكر الجنات البتة مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها والأنهار هي الخمر واللبن والعسل والماء فإذا شربوا من نهر الماء يجدون حياة ثم إنهم لا يموتون وإذا شربوا من اللبن يحصل
٨٢
في أبدانهم تربية ثم إنهم لا ينقصون وإذا شربوا من نهر العسل يجدون شفاء وصحة ثم إنهم لا يسقون وإذا شربوا من نهر الخمر يجدون طرباً وفرحاً ثم إنهم لا يحزنون، قال في "المثنوي" :
آب صبرت جوى آب خلد شد
جوى شير خلد مهر تست وود
ذوق طاعت كشت جوى انكبين
مستى وشوقي توجوي خمر بين
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨١
أين سببها ون بفرمان تو بود
ار جوهم مرتراً فرمان نمود
وروي أنه كتب عرضاً بسم الله الرحمن الرحيم على ساق العرش فعين الماء تنبع من ميم بسم، وعين اللبن تنبع من هاء الله، وعين الخمر تنبع من ميم الرحمن، وعين العسل تنبع من ميم الرحيم، هذا منبعها وأما مصبها فكلها تنصب في الكوثر وهو حوض النبي عليه السلام وهو في الجنة اليوم وينتقل يوم القيامة إلى العرصات لسقي المؤمنين ثم ينقل إلى الجنة ويسقي أهل الجنة أيضاً من عين الكافور، وعين الزنجبيل، وعين السلسبيل، وعين الرحيق ومزاجه من تسنيم بواسطة الملائكة ويسقيهم الله الشراب الطهور بلا واسطة كما قال تعالى :﴿وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (الإنسان : ٢١) ﴿كُلَّمَآ﴾ متى ﴿رُزِقُوا مِنْهَا﴾ أي : أطعموا من الجنة ﴿مِن ثَمَرَةٍ﴾ ليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة وإنما المراد نوع من أنواع الثمار ومن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدىء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة ﴿رِّزْقًا﴾ مفعول رزقوا وهو ما ينتفع به الحيوان طعاماً.
﴿قَالُوا هَـاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ أي : هذا مثل الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته وإنما جعل ثمر الجنة كثمر الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غير المعروف وليتبين لها مزية إذ لو كان جنساً غير معهود لظن أنه لا يكون إلا كذلك وإن كان فائقاً فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم وأن الكبرى لا تفضل عن حد البطيخة الصغيرة ثم يبصرون رمانة الجنة وهي تشبع السكن أي : أهل الدار كان ذلك أبين للفضل وأجلب للسرور وأزيد في التعجب من أن يفاجؤوا ذلك الرمان من غير عهد سابق بجنسه وعموم كمما يدل على ترديدهم هذه المقالة كل مرة رزقوا فيما عدا المرة الأولى يظهرون بذلك التبجح وفرط الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذة مع اتحادهما في الشكل واللون كأنهم قالوا هذا عين ما رزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبة من اللذة والطيب ولا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسم فإن ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذة والحسن والهيئة لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلاً كيف وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعي قطعاً.


الصفحة التالية
Icon