قال بعضهم : إن الله تعالى قوى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الأجناس وعرف الخلق قدرته في خلق الضعفاء على هيئات الأقوياء فإن البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره وفي البعوض زيادة جناحين فلا يستبعد من كرمه أن يعطي على قليل العمل ما يعطي على كثير العمل من الخلق كما أعطى صغير الجثة مع أعطى كبير الجثة من الخلقة ومن العجيب أن هذا الصغير يؤذي هذا الكبير فلا يمتنع منه ومن لطف الله تعالى أنه خلق الأسد بغاية القوة والبعوض والذباب بغاية الضعف ثم أعطى البعوض والذباب جراءة أظهرها في طيرانهما في وجوه الناس وتماديهما في ذلك مع مبالغة الناس في ذبهما بالمذبة وركب الجبن في الأسد وأظهر ذلك بتباعده عن مساكن الناس وطرقهم ولو تجاسر الأسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس فمنّ الله تعالى وجعل في الضعيف التجاسر وفي القوي الجبن ومن العجب عجزك عن هذا الضعيف وقدرتك على ذلك الكبير ـ وحكي ـ أنه خطب المأمون فوقع ذباب على عينه فطرده فعاد مراراً حتى قطع عليه الخطبة فلما صلى أحضر أبا هذيل شيخ البصريين في الاعتزال فقال له : لم خلق الله الذباب قال : ليذل به الجبابرة قال : صدقت وأجازه بمال كذا في "روضة الأخيار" ففي خلق مثل الذباب حكم ومصالح.
قال وكيع : لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا ومن الأعاجيب أن هذا الضعيف إذا طار في وجهك ضاق به قلبك ونغص به عيشك وفسد عليك بستانك وكرمك وأعجب منه جراءتك مع ضعفك على ما يورثك العار ويوردك النار فإذا كان جزعك هذا من البعوض في الدنيا فكيف حالك إذا تسلطت عليك الحيات والعقارب في لظى.
قال القشيري رحمه الله : الخلق في التحقيق بالإضافة في قدرة الخالق أقل من ذرة من الهباء في الهواء وسيان في قدرته العرش والبعوضة فلا خلق العرش عليه أعسر ولا خلق البعوضة عليه أيسر سبحانه وتقدس عن لحوق العسر واليسر.
واعلم أنه يمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل في الإنجيل غل الصدر بالنخالة قال : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ومثل مخاطبة
٨٦
السفهاء بإثارة الزنابير قال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم وقال فيه أيضاً : لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها ولا في البرية حيث اللصوص والسموم فيسرقها اللصوص ويحرقها السموم ولكن ادخروا ذخائركم عند الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٥
وجاء في الإنجيل أيضاً مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان وهو بفتح الزاي وضمها حب مر يخالط البر فقال عبيد الزراع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة زرعت في قريتك؟ قال : بلى قالوا : فمن أين هذا الزوان؟ قال : لعلكم إن ذهبتم لتلقطوا الزوان تقلعوا معه حنطة دعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين.
والتفسير الزراع أبو البشر والقرية العالم والحنطة الطاعة وزراع الزوان إبليس والزوان المعاصي والحصادون الملائكة يتوفون بني آدم.
وللعرب أمثال مثل قولهم هو أجمع من ذرة يزعمون أنها تدخر قوت سبع سنين وأجرأ من الذباب لأنه يقع على أنف الملك وجفن الأسد فإذا ذب أي : منع آب أي : رجع وأسمع من قراد تزعم العرب أن القراد يسمع الهمس الخفي من مناسم الإبل أي : أخفافها على مسيرة سبع ليال أو سبعة أميال وفلان أعمر من القراد وذلك أنها تعيش سبعمائة سنة وقيل : أعمر من حية لأنها لا تموت إلا قتلاً ويقال : أعمر من النسر لأنه يعيش ثلاثمائة سنة وفلان أصرد من جرادة أي : أبرد لأنها لا تظهر في الشتاء أبداً لقلة صبرها على البرد وأطيش من فراشة أي : أخف منها وهي بالفارسية "روانة" وأعز من مخ البعوض يقال لما لا يوجد ويقال كلفتني مخ البعوض في تكليف ما لا يطاق وأضعف من بعوضة وآكل من السوس وهو القمل الذي يأكل الحنطة والشعير الدويبة التي تقع على الصوف والجوخ وغيرهما فتأكلها.
وبالجملة إن الله تعالى يضرب الأمثال للناس ولا يستحيي من الحق وله في أمثاله مطلقاً حكم ومصالح وما يتذكر إلا أولو الألباب، قال المولى جلال الدين قدس سره :
بيت من بيت نيست اقليمست
هزل من هزل نيست تعليمست
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٥


الصفحة التالية
Icon