﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ بالقرآن محمد صلى الله عليه وسلّم والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل : فيضربه ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ أي : المثل بالبعوضة والذباب ﴿الْحَقِّ﴾ أي : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾ حال من الضمير المستكن في الحق أو من الضمير العائد إلى المثل أي : كائناً منه تعالى فيتفكرون في هذا المثل الحق ويوقنون أن الله هو خالق الكبير والصغير وكل ذلك في قدرته سواء فيؤمنون به.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم اليهود والمشركون ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَآ﴾ أي : ما الذي أو أي : شيء ﴿أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا﴾ أي : بالمثل الخسيس وفي كلمة هذا تحقير للمشار إليه واسترذال له.
﴿مَثَلا﴾ أي : بهذا المثل فلما حذف الألف واللام نصب على الحال أي : ممثلاً أو على التمييز فأجابهم الله تعالى بقوله :﴿يُضِلُّ بِهِ﴾ أي : يخذل بهذا المثل والإضلال هو الصرف عن الحق إلى الباطل وإسناد الإضلال أي : خلق الضلال إليه سبحانه مبني على أن جميع الأشياء مخلوقة له تعالى وإن كانت أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم ﴿كَثِيرًا﴾ من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالة ﴿وَيَهْدِي بِهِ﴾ أي : يوفق
٨٧
بهذا المثل ﴿كَثِيرًا﴾ من المؤمنين لتصديقهم به فيزدادون هداية يعني يضل به من علم منهم أنه يختار الضلالة ويهدي به من علم أنه يختار الهدي.
فإن قلت : لِمَ وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم؟ قلت : أهل الهدي كثير في أنفسهم وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال وأيضاً فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة لأن هؤلاء على الحق وهم على الباطل.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه السواد الأعظم هو الواحد على الحق ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ﴾ أي : لا يخذل بالمثل وتكذيبه ﴿إِلا الْفَاسِقِينَ﴾ أي : الكافرين بالله الخارجين عن أمره.
والفسق في اللغة الخروج وفي الشريعة الخروج عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرار على الصغيرة وله طبقات ثلاث : الأولى : التغابي وهو ارتكابها أحياناً مستقبحاً لها والثانية : الانهماك في تعاطيها والثالثة : المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الإيمان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٥
﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ أي : يخالفون ويتركون أمر الله تعالى.
والنقض الفسخ وفك التركيب.
فإن قلت : من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت : من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين قيل : عهد الله ثلاثة : الأول ما أخذه على ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته تعالى والثاني : ما أخذه على الأنبياء عليهم السلام بأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه والثالث : ما أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه ﴿مِنا بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي : بعد توثيق ذلك العهد وتوكيده بالقبول فالضمير للعهد أو بعد توثيق الله ذلك بإنزال الكتب وإرسال الرسل فالضمير إلى الله فالمراد بالميثاق هنا نفس المصدر لا نفس العهد.
ـ يحكى ـ عن مالك بن دينار رحمه الله أنه كان له ابن عم عامل سلطان في زمانهم وكان ظالماً جائراً فمرض ذلك الرجل ونذر وعهد على نفسه وقال : لو عافاني الله تعالى مما أنا فيه لا أدخل في عمل السلطان أبداً قال : فأبرأه الله من ذلك المرض فدخل في عمل السلطان ثانياً فظلم الناس أكثر مما ظلمهم في المرة الأولى فمرض ثانياً فنذر ثانياً أن لا يرجع إلى عمل السلطان فبرىء ونقض العهد ودخل فيه وظلم أكثر مما ظلم في المرتين فظهرت به علة شديدة فأخبر بذلك مالك بن دينار فزاره وقال : يا بني أوجب على نفسك شيئاً وعاهد مع الله عهداً لعلك تنجو من هذه العلة فقال المريض : عاهدت الله أن لو قمت من فراشي أن لا أعود إلى عمل السلطان أبداً فهتف هاتف يا مالك إنا قد جربناه مراراً فوجدناه كذوباً فلا ينفعه نذره أي : جربناه بنفسه فأكذب نفسه فمات الفتى على هذه الحالة كذا في "روضة العلماء".
قال في "المثنوي" :
نقض ميثاق وشكست توبها
موجب لعنت شود در انتها
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٨
﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ﴾ محل أن يوصل النصب على أنه بدل من ضمير الموصول أي : ما أمر الله به أن يوصل وهو يحتمل كل قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل وفي الحديث "إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل به وتحابوا بالألسن
٨٨


الصفحة التالية
Icon