﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ كيف نصب حالاً من الضمير في تكفرون أي : معاندين
٨٩
تكفرون وتجحدون ﴿بِاللَّهِ﴾ أي : بوحدانيته معكم ما يصرفكم عن الكفر إلى الإيمان من الدلائل الأنفسية والآفاقية والاستفهام إنكاري لا بمعنى إنكار الوقوع بل بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه لأن التعجب من الله يكون على وجه التعجيب والتعجيب هو أن يدعو إلى التعجب وكأنه يقول ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله كما في "تفسير أبي الليث".
وقال القاضي : هو استخبار والمعنى أخبروني على أي : حال تكفرون ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا﴾ جمع ميت كأقوال جمع قيل أي : والحال أنكم كنتم أمواتاً أي : أجساماً لا حياة لها عناصر وأغذية ونطفاً ومضغاً مخلقة وغير مخلقة.
قال في "الكشاف" فإن قلت كيف قيل لهم أموات حال كونهم جماداً وإنما يقال ميت فيما تصح منه الحياة من البنى.
قلت : بل يقال ذلك لعادم الحياة لقوله تعالى :﴿بَلْدَةً مَّيْتًا﴾ (الفرقان : ٤٩) ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ بخلق الأرواح ونفخها فيكم في أرحام أمهاتكم ثم في دنياكم وهذا إلزام لهم بالبعث والفاء للدلالة على التعقيب فإن الأحياء حاصل إثر كونهم أمواتاً وإن توارد عليهم في تلك الحالة أطوار مترتبة بعضها متراخ عن بعض كما أشير إليه آنفاً ثم لما كان المقام في الدنيا قد يطول جاء بثم حرف التراخي فقال :﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء آجالكم وكون الأمانة من دلائل القدرة ظاهر وأما كونها من النعم فلكونها وسيلة إلى الحياة الثانية التي هي الحيوان الأبدي والنعمة العظمى ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ للسؤال في القبور فيحيي حتى يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ويقال من ربك ومن نبيك وما دينك ودل ثم التي للتعقيب على سبيل التراخي على أنه لم يرد به حياة البعث فإن الحياة يومئذٍ يقارنها الرجوع إلى الله بالحساب والجزاء وتتصل به من غير تراخ فلا يناسب ثم إليه ترجعون ودلت الآية على إثبات عذاب القبر وراحة القبر كما في "التيسير" ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بعد الحشر لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر وإليه تنشرون من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه.
فإن قيل إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون.
قلت تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل به على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر أن أحياهم أو لا قدر أن يحييهم ثانياً فإن بدأ الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٩
﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم﴾ هذا بيان نعمة أخرى أي : قدر خلقها لأجلكم ولانتفاعكم بها في دنياكم ودينكم لأن الأشياء كلها لم تخلق في ذلك الوقت ﴿مَّا فِى الأرْضِ﴾ أي : الذي فيها من الأشياء ﴿جَمِيعًا﴾ نصب حالاً من الموصول الثاني وقد يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة كما في "الكواشي".
وقال في "التيسير" : أهل الإباحة من المتصوفة الجهلة حملوا اللام في لكم في قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم﴾ على الإطلاق والإباحة على الإطلاق وقالوا لا حظر ولا نهي ولا أمر فإذا تحققت المعرفة وتأكدت المحبة سقطت الخدمة وزالت الحرمة فالحبيب لا يكلف حبيبه ما يتعبه ولا يمنعه ما يريده ويطلبه وهذا منهم كفر صريح وقد نهى الله تعالى وأمر وأباح وحظر ووعد وأوعد وبشر وهدد والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة فمن حمل هذه الآية على الإباحة المطلقة فقد انسلخ من الدين بالكلية انتهى كلام "التيسير".
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ﴾ قصد إليها أي : إلى خلقها بإرادته ومشيئته قصداً سوياً بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من إرادة شيء آخر في تضاعيف خلقها
٩٠
أو غير ذلك ولا تناقض بين هذا وبين قوله :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَااهَآ﴾ (النازعات : ٣٠) لأن الدحو البسط.
وعن الحسن خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر أي : الحجر ملء الكف عليها دخان يلتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه ثم بسط منه الأرض كذا في "الكواشي".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أول ما خلق الله جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت ثم ثار منها دخان فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد أرضاً والدخان سماء قالوا فالسماء من دخان خلقت وبريح ارتفعت وبإشارة تفرقت وبلا عماد قامت وبنفخة تكسرت ﴿فَسَوَّااهُنَّ﴾ أي : أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لأنه سواهن بعد أن لم يكن كذلك والضمير فيه مبهم فسر بقوله تعالى :﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ فهو نصب على أنه تمييز نحو ربه رجلاً.
قال سلمان : هي سبع : اسم الأولى رقيع وهي من زمردة خضراء، واسم الثانية أرفلون وهي من فضة بيضاء، والثالثة قيدوم وهي من ياقوتة حمراء، والرابعة ماعون وهي من درة بيضاء، والخامسة دبقاء وهي من ذهب أحمر، والسادسة وفناء وهي من ياقوتة صفراء، والسابعة عروباء وهي من نور يتلألأ


الصفحة التالية
Icon