جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٩
﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ فيه تعليل كأنه قال ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان علمياً فإن إتقان الأفعال وأحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تفتتت وتكسرت وتبددت أجزاؤها واتصلت بما يشاكلها كيف يحمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان.
وفي هذه الآية إشارة إلى مراتب الروحانيات فالأول : عالم الملكوت الأرضية والقوى النفسانية، والثاني : عالم النفس، والثالث : عالم القلب، والرابع : عالم العقل، والخامس : عالم السر، والسادس : عالم الروح، والسابع : عالم الخفاء الذي هو السر الروحي، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بقوله : سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض وطرقها الأحوال والمقامات كالزهد والتقوى والتوكل والرضى وأمثالها.
واعلم أن المراتب اثنتا عشرة على عدد السموات والعروش الخمسة.
وكان الشيخ الشهير بافتادة أفندي قدس سره يقول للتوحيد : اثنا عشر باباً فالجلوتية يقطعونها بالتوحيد لأن سرهم في اليقين والخلوتية يقطعونها بالأسماء لأن سرهم في البرزخ وهم يقولون جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات وذلك لأن الجنات على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما سبع فإذا كان أربع منها لأهل اليقين أعني الجلوتية فالثلاث لأهل البرزخ أعني الخلوتية وهي الأفعال والصفات والذات.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٩
وفي "التأويلات النجمية" :﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ إما خطاب توحيد للمؤمنين أي أتكفرون بالله وبأنبيائه لأنكم ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا﴾ ذرات في صلب آدم ﴿فَأَحْيَـاكُمْ﴾ بإخراجكم من صلته وأسمعكم لذيذ خطاب ألست بربكم وأذاقكم لذات الخطاب ووفقكم للجواب بالصواب حتى قلتم بلى رغبة لا رهبة ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بالرجعة إلى أصلاب آبائكم وإلى عالم الطبيعة الإنسانية ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ ببعثة الأنبياء وقبول دعوتهم
٩١
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بدلالة الأنبياء وقدم التوحيد على جادة الشريعة إلى درجات الجنات وإما خطاب تشريف للأنبياء والأولياء أي : أتكفرون وكنتم أمواتاً في كتم العدم فأحياكم بالتكوين في عالم الأرواح ورشاش النور فخمر طينة أرواحكم بماء نور العناية وتخمير يد المحبة بأربعي صباح الوصال ثم يميتكم بالمفارقة عن شهود الجمال إلى مقبرة الحس والخيال ثم يحييكم أما الأنبياء فبنور نور الوحي وأما الأولياء فبروح روح نور الإيمان ثم إليه ترجعون أما الأنبياء فبالعروج وأما الأولياء فبالرجوع بجذبات الحق كما قال تعالى :﴿ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ﴾ (الفجر : ٢٨) فلما أثبت أن الرجوع إليه أمر ضروري إما بالاختيار كقراءة يعقوب ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم وأما بالاضطرار كقراءة الباقين أشار إلى أن الذي ترجعون إليه ﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ أي : ما خلقكم لشيء وخلق كل شيء لكم بل خلقكم لنفسه كما قال تعالى :﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى﴾ (طه : ٤١) معناه لا تكن لشيء غيري فإني لست لشيء غيرك فبقدر ما تكون لي أكون لك كما قال عليه السلام :"من كانكان الله له" وليس لشيء من الموجودات هذا الاستعداد أي : أن يكون هوعلى التحقيق وأن يكون الله له وفي هذا سر عظيم وإفشاء سر الربوبية كفر فلا تشتغل بما لك عمن أنت له فتبقى بلا هو ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ﴾ فيه إشارة إلى أن وجود السموات والأرض كان تبعاً لوجود الإنسان ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي : عالم بخلق كل شيء خلقه ولأي شيء خلقه فكل ذرة من مخلوقاته تسبح بحمد ذاته وصفاته وتشهد على أحديته وصمديته وتقول : ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك، قال المولى الجامي قدس سره :
دوجهان جلوكاه وجدت تو
شهد الله كواه وحدت تو
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٩
﴿وَإِذْ﴾ مفعول اذكر مقدرة أي : اذكر لهم وأخبر وقت ﴿قَالَ رَبُّكَ﴾ وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب الذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عياناً ﴿لِلْمَلَـائِكَةِ﴾ اللام للتبليغ وتقديم الجار والمجرور في هذا الباب مطرد لما في المقول من الطول غالباً مع ما فيه من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر.
والملائكة جمع ملك والتاء لتأكيد تأنيث الجماعة وسموا بها فإنهم وسائط بين الله وبين الناس فهو رسله لأن أصل ملك ملأك مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة.