جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
والملائكة عند أكثر المسلمين أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والدليل أن الرسل كانوا يرونهم كذلك.
وروي في شرح كثرتهم أن بني آدم عشر الجن وهما عشر حيوانات البر والكل عشر الطيور والكل عشر حيوانات البحار وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة ثم كل أولئك في مقابلة الكرسي نزر قليل ثم جمع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس وما منه من مقدار شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء في مقابلة
٩٢
الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ثم ملائكة اللوح الذي هم أشياع إسرافيل عليه السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام لا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفيات عباداتهم إلا باريهم العليم الخبير على ما قال تعالى :﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ﴾ (المدثر : ٣١) وروي أنه صلى الله عليه وسلّم حين عرج به إلى السماء رأى ملائكة في موضع بمنزلة شرف يمشي بعضهم تجاه بعض فسأل رسول الله جبريل عليهما السلام إلى أين يذهبون فقال جبريل عليه السلام :"لا أدري إلا أني أراهم منذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألا واحداً منهم منذ كم خلقت؟ فقال : لا أدري غير أن الله تعالى يخلق في كل أربعة آلاف سنة كوكباً وقد خلق منذ ما خلقني أربعمائة ألف كوكب فسبحانه من إله ما أعظم قدره وما أوسع ملكوته"، وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض والجن هم بنو الجان والجان أبو الجن كآدم أبو البشر وخلق الله الجان من لهب من نار لا دخان لها بين السماء والأرض والصواعق تنزل منها ثم لما سكنوا فيها كثر نسلهم وذلك قبل آدم بستين ألف سنة فعمروا دهراً طويلاً في الأرض مقدار سبعة آلاف سنة ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم ملائكة سماء الدنيا وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل وكان أكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض حتى هزموا الجن وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحور وشعوب الجبال وسكنوا الأرض وصار أمر العبادة عليهم أخف لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السموات يكون خوفهم أشد وملائكة السماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان له جناحان من زمرد أخضر وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه وأيضاً كل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها فقال الله تعالى له ولجنوده :﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾ أي : مصير ﴿فِي الأرْضِ﴾ دون السماء لأن التباغي والتظالم كان في الأرض ﴿خَلِيفَةً﴾ وهو آدم عليه السلام لأنه خلف الجن وجاء بعدهم ولأنه خليفة الله في أرضه أي : أريد أن أخلق في الأرض بدلاً منك ورافعكم إلي فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
واعلم أن الله تعالى يحفظ العالم بالخليفة كما يحفظ الخزائن بالختم وهو القطب الذي لا يكون في كل عصر إلا واحداً فالبدء كان بآدم عليه السلام والختام يكون بعيسى عليه السلام والحكمة في الاستخلاف قصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقى أمره بغير واسطة لأن المفيض تعالى في غاية التنزه والتقدس والمستفيض منغمس غالباً في العلائق الدنيئة كالأكل والشرب وغيرهما والعوائق الطبيعية كالأوصاف الذميمة فالاستفاضة منه إنما تحصل بواسطة ذي جهتين أي : ذي جهة التجرد وجهة التعلق وهو الخليفة أياً كان ولذا لم يستنبىء الله ملكاً فإن البشر لا يقدر على الاستفادة منه لكونه خلاف جنسه ألا يرى أن العظم لما عجز عن أخذ الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد جعل الله تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من اللحم ويعطي العظم وجعل السلطان الوزير بينه وبين رعيته إذ هم أقرب إلى قبولهم منه وجعل
٩٣
المستوقد الحطب اليابس بين النار وبين الحطب الرطب.
وفائدة قوله تعالى :﴿لِلْمَلَائكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً﴾ أربعة أمور :
الأول : تعليم المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة، قال في "المثنوي" :
مشورت إدراك وهشياري دهد
عقلها مر عقل را يارى دهد
كفت يغمبر بكم أي : رأى زن
مشورت كه المستشار مؤتمن
ويقال : أعقل الرجال لا يستغني عن مشاورة أولي الألباب وأفره الدواب لا يستغني عن السوط وأورع النساء لا تستغني عن الزوج.