والثاني : تعظيم شأن المجعول بأن بشر بوجوده سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه.
والثالث : إظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وهو قوله :﴿أَتَجْعَلُ﴾ الخ وجوابه وهو قوله :﴿إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ الخ.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
والرابع : بيان أن الحكمة تقتضي ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير كقطع العضو الذي فيه آكلة شر قليل وسلامة جميع البدن خير كثير فلو لم يقطع ذلك العضو سرت تلك الآفة إلى جميع البدن وأدت إلى الهلاك الذي هو شر كثير ﴿قَالُوا﴾ استئناف كأنه قيل فما ذا قالت الملائكة حينئذٍ فقيل قالوا :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ أي : الأرض ﴿مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ كما أفسدت الجن وفائدة تكرار الظرف تأكيد الاستبعاد ﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ أي : يصبها ظلماً كما يسفك بنو الجان والتعبير عن القتل بسفك الدماء لما أنه أقبح أنواع القتل.
قال بعض العارفين الملائكة الذين نازعوا في آدم ليسوا من أهل الجبروت ولا من أهل الملكوت السماوية فإنهم لغلبة النورية عليهم وإحاطتهم بالمراتب يعرفون شرف الإنسان الكامل ورتبته عند الله وإن لم يعرفوا حقيقته كما هي بل نازعت ملائكة الأرض والجن والشياطين الذين غلبت عليهم الظلمة والنشأة الموجبة للحجاب وفي قوله تعالى :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً﴾ بتخصيص الأرض بالذكر وإن كان خليفة في العالم كله في الحقيقة هو إيماء أيضاً بأن ملائكة الأرض هم الطاعنون إذ الظن لا يصدر إلا ممن هو في معرض ذلك المنصب وأهل السموات مدبرات للعالم العلوي فما قالت الملائكة الأرضية إلا بمقتضى نشأتهم التي هم عليها من غبطة منصب الخلافة في الأرض والغيرة على منصب ملكهم وتعبدهم بما هم عليه من التسبيح والتقديس فكل إناء يترشح بما فيه وأما الاعتراض على فعل الحكيم والنزاع في صنعه عند حضرته فمعفو عنه لكمال حكمته وإتقان صنعته، قال في "المثنوي" :
زانكه أين دمها اكر نالا يقست
رحمت من بر غضب هم سابقست
ازي إظهار أين سبق أي : ملك
درتو بنهم داعيه اشكال وشك
تابكويي ونكير م ر تو من
منكر حلمم نيارد دم زدن
صد در صد ما در اندر حلم ما
هر نفس زايد درافتد درفنا
حلم ايشان كف بحر حلم ماست
كف رود آيد ولى دريا بجاست
وفي "الفتوحات" أن هاروت وماروت من الملائكة الدين نازعوا آدم ولأجل هذا ابتلاهما الله تعالى بإظهار الفساد وسفك الدماء فافهم سر قوله عليه السلام :"دع الشماتة عن أخيك فيعافيه الله تعالى
٩٤
ويبتليك" وأيضاً من تلك الملائكة الطاعنين بسفك الدماء الملائكة التي أرسلها الله تعالى نصرة للمجاهدين وسفك الدماء غيرة على دين الله وشرعه كذا في "حل الرموز وكشف الكنوز" ﴿وَنَحْنُ﴾ أي : والحال أنا ﴿نُسَبِّحُ﴾ أي : ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين ﴿بِحَمْدِكَ﴾ على ما أنعمت علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة فالتسبيح لإظهار صفات الجلال والحمد لتذكير صفات الأنعام ﴿وَنُقَدِّسُ﴾ تقديساً ﴿لَكَ﴾ أي : نصفك بما يليق بك من العلو والعزة وننزهك عما لا يليق بك فاللام للبيان كما في سقياً لك متعلقة بمصدر محذوف ويجوز أن تكون مزيدة أي : نقدسك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
قال في "التيسير" التسبيح نفي ما لا يليق به والتقديس إثبات ما يليق به.
وقال الشيخ داود القيصري قدس سره التسبيح أعم من التقديس لأنه تنزيه الحق عن نقائص الإمكان والحدوث والتقديس تنزيهه عنها وعن الكمالات اللازمة للأكوان لأنها من حيث إضافتها إلى الأكوان تخرج عن إطلاقها وتقع في نقائص التقييد انتهى وكأنه قيل أتستخلف من شأن ذريته الفساد مع وجود من ليس من شأنه ذلك أصلاً والمقصود عرض أحقيتهم منهم بالخلافة والاستفسار عما رجح بني آدم عليهم مع ما هو متوقع منهم من الفساد وكأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذٍ؟ فقيل :﴿قَالَ﴾ الله ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ من الحكمة والمصلحة باستخلاف آدم عليه السلام وإن من ذريته الطائع والعاصي فيظهر الفضل والعدل فلا تعترضوا على حكمي وتقديري ولا تستكشفوا عن غيبة تدبيري فليس كل مخلوق يطلع على غيب الخالق ولا كل أحد من الرعية يقف على سر الملك.
وفي الآية تنبيه للسالك بأن يتأدب بين يدي الحق تعالى وخلفائه والمشايخ والعلماء لئلا يظهر بالأنانية وإظهار العلم عندهم لأنه سالك لطريق الفناء والفاني لا يكون كطاووس تعشق بنفسه وأعجب بذاته بل لا يرى وجوده أصلاً فقد وعظنا الله تعالى بزجره للملائكة بقوله :﴿إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾.
قال السعدي :
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندربند
ند كير ازمصائب ديكران
تانكيرند ديكران زتو ند
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً﴾ إنما قال جاعل وما قال خالق لمعنيين :


الصفحة التالية
Icon