أحدهما : أن الجاعلية أعم من الخالقية فإن الجاعلية هي الخالقية وشيء آخر وهو أن يخلقه موصوفاً بصفة الخلافة إذ ليس لكل أحد هذا الاختصاص كما قال تعالى :﴿يا دَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ﴾ (ص : ٢٦) أي : خلقناك مستعداً للخلافة فأعطيناكها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
والثاني : أن للجعلية اختصاصاً بعالم الأمور وهو للملكوت وهو ضد عالم الخلق لأنه هو عالم الأجسام والمحسوسات كما قال تعالى :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ﴾ (الأعراف : ٥٤) أي : الملك والملكوت فإنه تعالى حيث ذكر ما هو مخصوص بعالم الأمر ذكره بالجعلية لامتياز الأمر عن الخلق كما قال تعالى :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ (الأنعام : ١) فالسموات والأرض لما كانتا من الأجسام المحسوسات ذكرهما بالخلقية والظلمات والنور لما كانتا من الملكوتيات غير المحسوسات ذكرهما بالجعلية وإنما قلنا الظلمات والنور من الملكوتيات لقوله تعالى :﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة : ٢٥٧) فيفيد أنها من الملكوتيات لا من المحسوسات وأما الظلمات والنور التي من المحسوسات فإنها داخلة
٩٥
في السموات والأرض فافهم جداً فكذلك لما أخبر الله تعالى عن آدم بما يتعلق بجسمانيته ذكره بالخلقية كما قال :﴿إِنِّى خَالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ (ص : ٧١) ولما أخبر عما يتعلق بروحانيته ذكره بالجعلية وقال :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً﴾ وفي إني جاعل إشارة أخرى وهو إظهار عزة آدم عليه السلام على الملائكة لينظروا إليه بنظر التعظيم ولا ينكروا عليه بما يظهر منه ومن أولاده من أوصاف البشرية فإنه تعالى يقول ولذلك خلقهم وسماه خليفة وما شرف شيء من الموجودات بهذه الخلقة والكرامة وإنما سمي خليفة لمعنيين :
أحدهما : أنه يخلف عن جميع المخلوقات ولا يخلفه المكونات بأسرها وذلك لأن الله جمع فيه ما في العوالم كلها من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات والدنيويات والأخرويات والجماديات والنباتيات والحيوانيات والملكوتيات فهو بالحقيقة خليفة كل وأكرمه باختصاص كرامة ونفخت فيه من روحي وما أكرم بها أحداً من العالمين وأشار إلى هذا المعنى بقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ (الإسراء : ٧٠) فلهذا الاختصاص ما صلح الموجودات كلها أن تكون خليفة لآدم ولا للحق تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
والثاني : أنه يخلف وينوب عن الله صورة ومعنى أما صورة فوجوده في الظاهر يخلف عن وجود الحق في الحقيقة لأن وجود الإنسان يدل على وجود موجده كالبناء يدل على وجود الباني ويخلف وحدانية الإنسان عن وحدانية الحق وذاته عن ذاته وصفاته عن صفاته فيخلف حياته عن حياته وقدرته عن قدرته وإرادته عن إرادته وسمعه عن سمعه وبصره عن بصره وكلامه عن كلامه وعلمه عن علمه ولإمكانية روحه عن لا مكانيته ولا جهتيته عن لا جهتيته فافهم إن شاء الله تعالى وليس لنوع من المخلوقات أن يخلف عنه كما يخلف آدم وإن كان فيهم بعض هذه لأنه لا يجتمع صفات الحق في أحد كما يجتمع في الإنسان ولا يتجلى صفة من صفاته لشيء كما يتجلى لمرآة قلب الإنسان صفاته وأما الحيوانات فإنها وإن كان لها بعض هذه الصفات ولكن ليس لها علم بوجود موجدها وأما الملائكة فإنهم وإن كانوا عالمين بوجود موجدهم ولكن لا يبلغ حد علمهم إلى أن يعرفوا أنفسهم بجميع صفاتها ولا الحق بجميع صفاته ولذا قالوا :﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ وكان الإنسان مخصوصاً بمعرفة نفسه بالخلافة وبمعرفة جميع أسماء الله تعالى وأما معنى فليس في العالم مصباح يستضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته في الأرض خلافة عنه إلا مصباح الإنسان فإنه مستعد لقبول فيض نور الله لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب والزجاجة في مشكاة الجسد وفي زجاجة القلب زيت الروح يكاد زيتها يضيء من صفات العقل ولو لم تمسسه نار النور وفي مصباح السر فتيلة الخفاء فإذا أراد الله أن يجعل في الأرض خليفة يتجلى بنور جماله لمصباح السر الإنساني فيهدي لنوره فتيلة خفاء من يشاء فيستنير مصباحه بنار نور الله فهو على نور من ربه فيكون خيلفة الله في أرضه فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة لمستحقيها وبالعزة والقهر والغضب والانتقام لمستحقيها كما قال تعالى :﴿يا دَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (ص : ٢٦) وقال لحبيبه عليه السلام :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة : ١٢٨) وقال في حقه وحق المؤمنين :﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّه وَالَّذِينَ مَعَه أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ (