جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
الفتح : ٢٩) ولم يظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك وناهيك بحال هاروت وماروت لما أنكرا على ذرية آدم منّ اتباع الهوى والقتل
٩٦
والظلم والفساد وقالا : لو كنا بدلاً منهم خلفاء الأرض ما كنا نفعل مثل ما يفعلون فالله تعالى أنزلهما إلى الأرض وألبسهما لباس البشرية وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك والقتل بغير حق والزنى وشرب الخمر.
قال قتادة فما مر عليهما شهر حتى افتتنا فشربا الخمر وسفكا الدم وزنيا وقتلا وسجدا للصنم فثبت أن الإنسان مخصوص بالخلافة وقبول فيضان نور الله فلو كان للملائكة هذه الخصوصية لما أفتتنا بهذه الأوصاف المذمومة الحيوانية والسبعية كما كان الأنبياء عليهم السلام معصومين من مثل هذه الآفات والأخلاق وإن كانت لازمة لصفاتهم البشرية ولكن بنور التجلي تنور مصباح قلوبهم واستنار بنور قلوبهم جميع مشكاة جسدهم ظاهراً وباطناً وأشرقت الأرض بنور ربها فلم يبق لظلمات هذه الصفات مجال الظهور مع استعلاء النور فالملائكة من بدو الأمر لما نظروا إلى جسد آدم شاهدوا ظلمات البشرية والحيوانية والسبعية في ملكوت الجسد بالنظر الملكوتي الملكي ولم تكن تلك الصفات غائبة عن نظرهم ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ فقولهم هذا يدل على معان مختلفة :
منها أن الله أنطقهم بهذا القول ليتحقق لنا أن هذه الصفات الذميمة في طينتنا مودعة وجبلتنا مركبة فلا نأس من مكر أنفسنا الأمارة بالسوء ولا نعتمد عليها ولا نبرئها كما قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام :﴿وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى﴾ (يوسف : ٥٣).
ومنها لنعلم أن كل عمل صالح نعمله هو بتوفيق الله إيانا وفضله ورحمته وكل فساد وظلم نعمله هو من شؤم طبيعتنا وخاصية طينتنا كما قال تعالى :﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ (النساء : ٧٩) وكل فساد وظلم لا يجري علينا ولا يصدر منافذ لك من حفظ الحق وعصمة الرب لقوله :﴿إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى﴾ (يوسف : ٥٣).
ومنها لنعلم أن الله تعالى من كمال فضله وكرمه قد قبلنا بالعبودية والخلافة وقال : من حسن عنايته في حقنا للملائكة المقربين ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ لكيلا نقنط من رحمته وننقطع عن خدمته.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
ومنها لنعلم أن فساد الاستعداد أمر عظيم وبناء جسيم ومبنى الخلافة على الاستعداد والقابلية وليس للملائكة هذا الاستعداد والقابلية فلا نتغافل عن هذه السعادة ونسعى في طلبها حق السعاية.
ومنها أن الملائكة إنما قالوا :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ الخ لأنهم نظروا إلى جسد آدم قبل نفخ الروح فشاهدوا بالنظر الملكي في ملكوت جسده المخلوق من العناصر الأربعة المتضادة صفات البشرية والبهيمية والسبعية التي تتولد من تركيب أضداد العناصر كما شاهدوها في أجساد الحيوانات والسباع الضاريات بل عاينوها فإنها خلقت قبل آدم فقاسوا عليها أحواله بعد أن شاهدوها وحققوها وهذا لا يكون غيباً في حقهم وإنما يكون غيباً لنا لأنا ننظر بالحس والملكوت يكون لأهل الحس غيباً ومنا من ينظر بالنظر الملكوتي فيشاهد الملائكة والملكوتيات بالنظر الروحاني كما قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الأنعام : ٧٥) وقال :﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الأعراف : ١٨٥) فحينئذٍ لا يكون غيباً فالغيب ما غاب عنك وما شاهدته فهو شهادة فالملكوت للملائكة شهادة والحضرة الإلهية لهم غيب وليس لهم الترقي إلى تلك الحضرة وإن في الإنسان صورة من عالم الشهادة المحسوسة وروحاً من عالم الغيب الملكوتي غير المحسوس وسراً مستعداً لقبول فيض الأنوار الإلهية فبالتربية يتقرى من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وهو
٩٧
الملكوت وبسر المتابعة وخصوصيتها يترقى من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت والعظموت وهو غيب الغيب ويشاهد بنور الله المستفاد من سر المتابعة أنوار الجمال والجلال فيكون في خلافة الحق عالماً للغيب والشهادة كما أن الله تعالى ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ﴾ (الجن : ٢٦) أي : الغيب المخصوص به وهو غيب الغيب ﴿أَحَدًا﴾ يعني : من الملائكة ﴿إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ (الجن : ٢٧) يعني : من الإنسان فهذا هو السر المكنون المركوز في استعداد الإنسان الذي كان الله يعلم منه والملائكة لا يعلمونه كما قال تعالى :﴿إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢