ومنها أن الملائكة لما نظروا إلى كثرة طاعتهم واستعداد عصمتهم ونظروا إلى نتائج الصفات النفسانية استعظموا أنفسهم واستصغروا آدم وذريته فقال :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ يعني : في الأرض ﴿خَلِيفَةً﴾ مع أنه ﴿يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ يعني : نحن لهذه الأوصاف أحق بالخلافة منه كما قال بنوا إسرائيل حين بعث الله لهم ﴿طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾ (البقرة : ٢٤٧) فأجابهم الله تعالى بأن استحقاق الملك ليس بالمال إنما هو بالاصطفاء والبسطة في العلم والجسم فقال :﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِا وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَه مَن يَشَآءُ﴾ (البقرة : ٢٤٧) فكذلك هنا أجابهم الله تعالى بقوله :﴿إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ إجمالاً ثم فصله بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ﴾ (آل عمران : ٣٣) وبقوله :﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة : ٣١) وبقوله :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ﴾ (ص : ٧٥) ليعلموا أن استعداد ملك الخلافة واستحقاقها ليس بكثرة الطاعات ولكنه مالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء فلما تفاخر الملائكة بطاعتهم على آدم من الله تعالى على آدم بعلم الأسماء ليعلموا أنهم ولو كانوا أهل الطاعة والخدمة فإنه أهل العقل والمنة وأين أهل الخدمة من أهل المنة فبتفاخرهم على آدم صاروا ساجدين له ليعلموا أن الحق تعالى مستغن عن طاعتهم وبمنته على آدم صار مسجوداً لهم ليعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وفي قوله :﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ إشارة أخرى إلى أنه كما يدل على أن لآدم فضائل لا يعلمها الملائكة فكذلك له رذائل وأوصاف مذمومة لا يعلمها الملائكة لأنهم لا يعلمون منه أوصافاً مذمومة هي من نتائج قالبه مشتركة مع الحيوانات مودعة في ملكوته غير أوصاف مذمومة تكون من نتائج النفس الأمارة عند تتابع نظر الروح إلى النفس حالة عدم استعمال الشرع من العجب والرياء والسمعة والحسد واشتراء الحياة الدنيا بالآخرة والابتداع والزيغوغة واعتقاد السوء وغير ذلك مما لا يشاركه الحيوانات فيه انتهى ما في "التأويلات".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسْمَآءَ كُلَّهَا﴾ قال وهب بن منبه : لمّا أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض أي : أفهمها وألهمها أني جاعل منك خليفة فمنهم من يعطيني فأدخله الجنة ومنهم من يعصيني فأدخله النار فقالت الأرض مني تخلق خلقاً يكون للنار؟ قال : نعم فبكت فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة وبعث إليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة من زواياها الأربع من أسودها وأبيضها وأحمرها وأطيبها وسهلها وصعبها وجبلها فلما أتاها جبريل ليقبض منها قالت الأرض : بالله الذي أرسلك لا تأخذ مني شيئاً فإن منافع التقرب إلى السلطان كثيرة ولكن فيه خطر عظيم كما قيل :
بدريا در منافع بيشمارست
اكرخوا هي سلامت در كنارست
٩٨
فرجع جبريل عليه السلام إلى مكانه ولم يأخذ منها شيئاً فقال : يا رب حلفتني الأرض باسمك العظيم فكرهت أن أقدم عليها فأرسل الله ميكائيل عليه السلام فلما انتهى إليها قالت الأرض له كما قالت لجبريل فرجع ميكائيل فقال كما قال جبريل فأرسل الله إسرافيل عليه السلام وجاء ولم يأخذ منها شيئاً وقال مثل ما قال جبريل وميكائيل فأرسل الله ملك الموت فلما انتهى قالت الأرض أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن تقبض مني اليوم قبضة يكون للنار فيها نصيب غداً فقال ملك الموت : وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمراً فقبض قبضة من وجه الأرض مقدار أربعين ذراعاً من زواياها الأربع فلذلك يأتي بنوه أخيافاً أي : مختلفين على حسب اختلاف ألوان الأرض وأوصافها فمنهم الأبيض والأسود والأحمر واللين والغليظ فصار كل ذرة من تلك القبضة أصل بدن للإنسان فإذا مات يدفن في الموضع الذي أخذت منه ثم صعد إلى السماء فقال الله له : أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك؟ فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها فقال : أنت تصلح لقبض أرواح ولده.
قال في "روضة العلماء" : فشكت الأرض إلى الله تعالى وقالت : يا رب نقص مني قال الله على أن أرد إليك أحسن وأطيب مما كان فمن ثمة يحنط الميت بالمسك والغالية انتهى.
فأمر الله تعالى عزرائيل فوضع ما أخذ من الأرض في وادي نعمان بين مكة والطائف بعدما جعل نصف تلك القبضة في النار ونصفها في الجنة فتركها إلى ما شاء الله ثم أخرجها ثم أمطر عليها من سحاب الكرم فجعلها طيناً لازباً وصور منه جسد آدم.