﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بنى الله سبحانه أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وتأثير سلطانه ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر، وفيه إشارة أيضاً إلى أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت منه بل من حيث أنها نسبة شريفة ووصلة بينه وبين الحق فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسب إليه ولذلك فضل ما حكى عن حبيبه حين قال :﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (التوبة : ٤٠) على ما حكاه عن كليمه حيث قال :﴿إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء : ٦٢) وتقديم المفعول لقصد الاختصاص أي : نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك والعبادة غاية الخضوع والتذلل.
وعن عكرمة : جميع ما ذكر في القرآن من العبادة التوحيد ومن التسبيح الصلاة ومن القنوت الطاعة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلّم قل يا محمد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي : إياك نؤمل ونرجو لا غيرك والضمير المستكن في ﴿نَعْبُدُ﴾ وكذا في ﴿نَسْتَعِينُ﴾ للقارىء ومن معه من لحفظة وحاضري صلاة الجماعة أوله ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها وتجاب ولهذا شرعت الجماعة.
قال الشيخ الأكبر والمسك الأذفر قدسنا الله بسره الأطهر في كتاب "العظمة" إذا كنى العبد عن نفسه بنون نفعل فليست بنون التعظيم وإذا كنى عن الحق تعالى بضمير الأفراد فإن ذلك لغلبة سلطان التوحيد في قلب هذا العبد وتحققه به حتى سرى في كليته فظهر ذلك في نطقه لفظاً كما كان عقداً وعلماً ومشاهدة وعيناً وهذه النون نون الجمع فإن العبد وإن كان فرداني اللطيفة وحداني الحقيقة فإنه غير وحداني ولا فرداني من حيث لطيفته ومركبها وهيكلها وقالبها وما من جزء في الإنسان إلا والحق تعالى قد طالب الحقيقة الربانية التي فيه أن تلقى على هذه الأجزاء ما يليق بها من العبادات وهي في الجملة وإن كانت المدبرة فلها تكليف يخصها ويناسب ذاتها فلهذه الجمعية يقول العبد تعالى : نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد وإياك نعبد وأمثال هذا الخطاب ولقد سألني سائل من علماء الرسول عن هذه المسألة وكان قد حار فيها فأجبته بأجوبة منها هذا فشفى غليله والحمدانتهى كلام الشيخ قدس سره، وإنما خصص العبادة به تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم فلا تليق إلا بالمنعم في الغاية وهو المنعم بخلق المنتفع وبإعطاء الحياة الممكنة من الانتفاع كما قال تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٧
﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ (البقرة : ٢٨) الآية ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة : ٢٩) ولأن أحوال العبد ماض وحاضر ومستقبل ففي الماضي نقله من العدم والموت والعجز والجهل إلى الوجود والحياة والقدرة والعلم بقدرته الأزلية وفي الحاضر انفتحت عليه أبواب الحاجات ولزمته أسباب الضروريات فهو ربي الرحمن الرحيم وفي المستقبل مالك يوم الدين يجازيه بأعماله
١٧