﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ أي : اذكر يا محمد وقت قولنا ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾ أي : لجمعهم لقوله تعالى :﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ (الحجر : ٣٠) ﴿اسْجُدُوا لادَمَ﴾ أي : خروا له والسجود في الأصل تذلل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة والمأمور به أما المعنى الشرعي فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيماً لشأنه وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له كسجود إخوة يوسف له وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له :"لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلاتعالى ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" فتحية هذه الأمة هي السلام لكن يكره الانحناء لأنه يشبه فعل اليهود كما في "الدرر"، وكان هذا القول الكريم بعد إنبائهم بالأسماء قيل لما خلق آدم أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم فلما سألهم عن الأسماء فلم يعرفوا وسأل آدم فأخبر بها ظهر لهم أن آدم أعلم منهم ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم فلما أمرهم بالسجود ظهر لهم فضله ومن لطف الله تعالى بنا أن أمر الملائكة بالسجود لأبينا ونهانا عن السجود لغيره فقال :﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ﴾ (فصلت : ٣٧) نقل الملائكة المقربين إلى آدم وسجدته ونقلنا إلى سجدته وخدمته.
وفي "التأويلات النجمية" في قوله :﴿اسْجُدُوا﴾ ثلاثة معان :
أحدها : أنكم تسجدون بالطبيعة الملكية والروحانية فاسجدوا لآدم خلافاً للطبيعة بل اعبدوا وأرقوا انقياداً للأمر وامتثالاً للحكم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٣
والثاني : اسجدوا لآدم تعظيماً لشأن خلافته وتكريماً لفضيلته المخصوصة به وذلك لأن الله تعالى يتجلى فيه فمن سجد له فقد سجدكما قال تعالى في حق حبيبه عليه السلام
١٠٣
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾.
والثالث : اسجدوا لآدم أي : لأجل آدم وذلك لأن طاعتهم وعبادتهم ليست بموجبة لثوابهم وترقي درجاتهم وفائدتها راجعة إلى الإنسان لمعنيين :
أحدهما : أن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر وينزجر عن الإباء والاستكبار كيلا يلحق به اللعن والطرد كما لحق بإبليس ويكون مقبولاً ممدوحاً مكرماً كما كان الملائكة في امتثال الأمر لقوله تعالى :﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم : ٦).
والثاني : أن الله تعالى من كمال فضله ورحمته مع الإنسان جعل همة الملائكة في الطاعة والتسبيح والتحميد مقصورة على استعداد المغفرة للإنسان كما قال تعالى :﴿والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرْضِ﴾ (الشورى : ٥) فلذلك أمرهم بالسجود لأجلهم وليستغفروا لهم ﴿فَسَجَدُوا﴾ أي : سجد الملائكة لأنهم خلقوا من نور كما قال عليه السلام :"خلقت الملائكة من نور" والنور من شأنه الانقياد والطاعة وأول من سجد جبرائيل فأكرم بإنزال الوحي على النبيين وخصوصاً على سيد المرسيلن ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم سائر الملائكة وقيل : أول من سجد إسرافيل فرفع رأسه وقد ظهر كل القرآن مكتوباً على جبهته كرامة له على سبقه إلى الائتمار.
والفاء في قوله فسجدوا لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال وعدم تلعثمهم في ذلك ﴿إِلا إِبْلِيسَ﴾ أي : ما سجد لأنه خلق من النار والنار من شأنها الاستكبار وطلب العلو طبعاً وللعلماء في هذا الاستثناء قولان :
الأول : إنه استثناء متصل لأن إبليس كان جنياً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم متصفاً بصفاتهم فغلبوا عليه في قوله فسجدوا ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم.
وأكثر المفسرين على أن إبليس من الملائكة لأن خطاب السجود كان مع الملائكة قال البغوي وهو الأصح، قال في "التيسير" : أما وصف الملائكة بأنهم لا يعصون ولا يستكبرون فذلك دليل تصور العصيان منهم ولولا التصور لما مدحوا به لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع ولا يستنكر من الملائكة تصور العصيان فقد ذكر من هاروت وماروت ما ذكر، قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٣
امتحان مي كرد شان زير وزبر
كي بود سرمست را زاينها خبر