والقول الثاني : أنه منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص قال تعالى :﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ (الكهف : ٥٠) وعن الحافظ أن الجن والملائكة جنس واحد فمن طهر منهم فهو ملك ومن خبث فهو شيطان ومن كان بين بين فهو جن ﴿أَبَى﴾ أي : امتنع عما أمر به من السجود والإباء امتناع باختيار ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ أي : تعظم وأظهر كبره ولم يتخذه وصلة في عبادة ربه أو تعظيمه وتلقيه بالتحية والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك بالتشبع أي : بالتزين بالباطل وبما ليس له وتقديم الإباء على الاستكبار مع كونه مسبباً عنه لظهوره ووضوح أثره، قال في "المثنوي" :
اين تكبر يست غفلت ازلباب
منجمد ون غفلت يخ زآفتاب
ون خبر شد زآفتابش يخ نماند
نرم كشت وكرم كشت وتيز راند
قالوا لما سجد الملائكة امتنع إبليس ولم يتوجه إلى آدم بل ولاه ظهره وانتصب هكذا إلى
١٠٤
أن سجدوا وبقوا في السجود مائة سنة وقيل خمسمائة سنة ورفعوا رؤوسهم وهو قائم معرض لم يندم من الامتناع ولم يعزم على الاتباع فلما رأوه عدل ولم يسجد وهم وفقوا للسجود سجدواتعالى ثانياً فصار لهم سجدتان سجدة لآدم وسجدةتعالى وإبليس يرى ما فعلوه وهذا اباؤه فغير الله تعالى صفته وحالته وصورته وهيئته ونعمته فصار أقبح من كل قبيح قال الله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد : ١١) قال بعضهم جعل ممسوخاً على مثال جسد الخنازير ووجهه كالقردة وللشيطان نسل وذرية والممسوخ وإن كان لا يكون له نسل لكن لما سأل النظرة وأنظر صار له نسل.
وفي الخبر قيل له من قبل الحق : اسجد لقبر آدم أقبل توبتك واغفر معصيتك فقال : ما سجدت لقالبه وجثته فكيف أسجد لقبره وميتته.
وفي الخبر أن الله تعالى يخرجه على رأس مائة ألف سنة من النار ويخرج آدم من الجنة ويأمره بالسجود لآدم فيأبى ثم يرد إلى النار ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أي : في علم الله تعالى أو صار منهم باستقباحه أمر الله إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوصل به كما أشعر به قوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٣
﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ (الأعراف : ١٢) جواباً لقوله تعالى :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّا أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ (ص : ٧٥) لا بترك الواجب وحده ومذهب أهل السنة أن الشقي قد يسعد والسعيد قد يشقى فالكافر إذا أسلم كان كافراً إلى وقت إسلامه وإنما صار مسلماً بإسلامه إلا أنه غفر له ما سلف والمسلم إذا كفر والعياذ بالله كان مسلماً إلى ذلك الوقت إلا أنه حبط عمله ثم إنما قال من الكافرين ولم يكن حينئذٍ كافر غيره لأنه كان في علم الله أن يكون بعده كفار فذكر أنه كان من الكافرين أي : من الذين يكفرون بعده وهذا كما في قوله :﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمناً وهي مسألة الموافاة أي : اعتبار تمام العمر الذي هو وقت الوفاة فإذا كان العبرة بالخاتمة فليسارع العبد إلى الطاعات فكل ميسر لما خلق له خصوصاً في آخر السنة وخاتمتها كي يختم له الدفتر بالعمل الصالح.
قالت رابعة العدوية لسفيان الثوري رحمهما الله : إنما أنت أيام معدودة فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فاعلم واعتبر ولا تقل ذهب لي درهم ودينار وسقط لي مال وجاه بل قل ذهب يومي ماذا عملت فيه فإن باليوم ينقضي العمر.
واحتضر عابد فقال ما تأسفي على دار الأحزان وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله تعالى.
وعن العلاء بن ذياد قال : ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم ويقول : يا أيها الناس إني يوم جديد وأنا على ما يعمل في شهيد وإني لو غربت شمسي لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.
قيل : يا رسول الله من خير الناس؟ قال :"من طال عمره وحسن عمله" قيل : فأي الناس شر قال :"من طال عمره وساء عمله وخيف شره ولم يرج خيره" قال الحسن لجلسائه يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا بلغ قالوا : الحصاد قال : يا معشر الشباب فإن الزرع قد تركه الآفة قبل أن يبلغ وأنشد بعضهم :
١٠٥
ألا مهد لنفسك قبل موت
فإن الشيب تمهيد الحمام
وقد جد الرحيل فكن مجداً
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٣
لحط الرحل في دار المقام