﴿وَكُلا مِنْهَا﴾ أي : من ثمار الجنة وجه الخطاب إليهما إيذاناً بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له في الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ثم معنى الأمر بهذا والشغل به مع أنه اختصه واصطفاه وللخلافة أبداه أنه مخلوق والذي يليق بالخلق هو السكون بالخلق والقيام باستجلاب الحظ.
﴿رَغَدًا﴾ أي : أكلاً واسعاً رافهاً بلا تقدير وتقتير ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ أي : مكان من الجنة شئتما وسع الأمر عليهما إزاحة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر.
﴿وَلا تَقْرَبَا﴾ بالأكل ولو كان النهي عن الدنو لضمت الراء ﴿هَاذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ الشجرة نصب على أنه بدل من اسم الإشارة أو نعت له بتأويلها بمشتق أي : هذه الحاضرة من الشجرة أي : لا تأكلا منها وإنما علق النهي بالقرآن منها مبالغة في تحريم الأكل ووجوب الاجتناب عنه والمراد بها البر والسنبلة وهو الأشهر والأجمع والأنسب عند الصوفية لأن النوع الإنساني ظهر في دور السنبلة وعليها من كل لون وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وأشد بياضاً من الثلج كل حبة من حنطتها مثل كلية البقرة وقد جعلها الله رزق أولاده في الدنيا ولذلك قيل تناول سنبلة فابتلى بحرث السنبلة أو المراد الكرم ولذلك حرمت علينا أو التين ولهذا ابتلاه الحق بلباس ورقها كما ابتلاه بثمرها وهو البلاء الحسن وقيل غير ذلك والأولى عدم تعيينها لعدم النص القاطع ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ مجزوم على أنه معطوف على تقربا أو منصوب على أنه جواب للنهي والمعنى على الأول لا يكن منكما قربان الشجرة وكونكما من الظالمين وعلى الثاني أن تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين وأيّا ما كان فالقرب أي : الأكل منها سبب لكونهما من الظالمين أي : الذين ظلموا
١٠٧
أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله.
قال القرطبي : قال بعض أرباب المعاني في قوله ولا تقربا إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة وأن سكناهما فيها لا يدوم لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى والدليل على هذا قوله تعالى :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة : ٣٠) فدل على خروجه منها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٣
قال الشيخ نجم الدين قدس سره أن آدم خاطبه مولاه خطاب الابتلاء والامتحان والنهي نهي تعزز ودلال كأنه قال : يا آدم أبحت لك الجنة وما فيها إلا هذه الشجرة فإنها شجرة المحبة والمعرفة والمحبة مطية المحنة وأن منعه منها كان تحريضاً على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع فسكنت نفس آدم إلى حواء وإلى الجنة وما فيها إلا إلى الشجرة المنهي عنها لأنها كانت مشتهى القلب وكان للنفس فيها حظ ولا يزال يزداد توقانه إليها فيقصدها حتى تناول منها فظهر سر الخلافة والمحبة والمحنة والتحقق بمظاهر الجمال والجلال كالتواب والغفور والعفو والقهار والستار.
والحاصل أنه لما علم الله تعالى أنه يأكل من الشجرة نهاه ليكون أكله عصياناً يوجب توبة ومحبة وطهارة من تلوث الذنب كما قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة : ٢٢٢) فأورثه ذلك النهي عن أكل الشجرة عصياناً بسبب النسيان ثم توبة بسبب العصيان ثم محبة بسبب التوبة ثم طهارة بسبب المحبة كما ورد في الخبر "إذا أحب الله عبداً لم يضره الذنب" أي : حفظه من الذنب وإذا وقع فيه وفقه للتوبة والندامة وكل زلة عاقبتها التوبة والتشريف والاجتباء فقيل : هي زلة تنزيه واستحقاق آدم اللوم بالنهي التنزيهي من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين.
قال مرجع طريقتنا الجلوتية الشيخ الشهير بالهدائي قدس سره المراد بالدعوة إلى الجنة الدعوة إلى مقام الروح في وجود بني آدم كأنه قال لقلب الإنسان : يا آدم القلب اسكن أنت وزوجك وهي النفس الإنسانية في الروح بالطاعات والعبادات ﴿وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا﴾ أي : كلا من المعارف الإلهية لأن الروح مقام المعرفة التي تحصل بسبب الطاعات والعبادات.
﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ أي : عمل أحببتما من الخيرات والصالحات.
﴿وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أي : شجرة المخالفة فإن هذا الخطاب لما كان يشمل عامة العباد إلى يوم القيامة لم ينحصر في آدم وحواء عليهما السلام فينبغي للمؤمن أن يترقى إلى الله تعالى بسبب الطاعات والعبادات ويجتنب عن المخالفات حتى لا يقع في المهالك والدركات، قال في "المثنوي" :
داروى مردى بخور اندر عمل
تا شوى خورشيد كرم اندر حملجهدكن تانور تو رخشان شود
تا سلوك وخدمتت آسان شودتا جلا باشد مران آيينه را
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٣


الصفحة التالية
Icon