الباري تعالى أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة والفاء للدلالة على ترتبه على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة.
وتمام التوبة من العبد بالندم على ما كان وبترك الذنب الآن وبالعزم على أن لا يعود إليه في مستأنف الزمان وبرد مظالم العباد وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه باليد والاعتذار منه باللسان واكتفى بذكر آدم عليه السلام لأن حواء كانت تابعة له في الحكم ولذلك طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن ﴿إِنَّه هُوَ التَّوَّابُ﴾ الرجاع على عباده بالمغفرة أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة ﴿الرَّحِيمُ﴾ المبالغ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران والجملة تعليل لقوله تعالى :﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٣
مركب توبه عجائب مر كبست
بر فلك تازد بيك لحظه زستون برارند ازشماني حنين
عرش لزد از انين المذنبين قال ابن عباس رضي الله عنهما : بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً ولم يقرب آدم حواء مائة سنة.
وقال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما هبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى قالوا : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة، قال في "المثنوي" :
ون خدا خواهد كه مان يارى كند
ميل مارا جانب زارى كندأي خنك شمي كه آن كريان أوست
وي هما يون دل كه آن بريان اوست
آخر هر كريه آخر خنده ايست
مرد آخر بين مبارك بنده ايست
باش ون دولاب نالان ثم تر
تا زصحن جان بر رويد خضر
فإذا كان حال من اقترف خطيئة دون صغيرة هذا فكيف حال من انغمس في بحر العصيان والتوبة بمنزلة الصابون فكما أن الصابون يزيل الأوساخ الظاهرة فكذا التوبة تزيل الأوساخ الباطنة العبد إذا رجع عن السيئة وأصلح عمله أصلح الله شأنه وأعاد عليه نعمته الفائتة.
عن ابن أدهم بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل ذبح عجلاً بين يدي أمه فيبست يده فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره وهو يتبصبص فأخذه ورده إلى وكره فرحمه الله لذلك ورد عليه يده بما صنع ولا ريب أن العمل الصالح يمحو الخطيئات.
وفي "التأويلات النجمية" : إن أول نبت أنبتته أمطار الإلهامات الربانية من حبة المحبة في قلب آدم وطينة الإنسانية كان نبات ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف : ٢٣) لأنه أبصر بنور الإيمان أنه ظالم لنفسه إذ أكل حبة المحبة ووقع في شبكة المحنة والمذلة وإن لم يعنه ربه بمغفرته ويقه برحمته لم يتخلص من حضيض بشريته الذي أهبط إليه ويخسر رأس مال استعداد السعادة الأزلية ولم يمكنه الرجوع إلى ذروة مقام القربة فاستغاث إلى ربه وقال : ربنا مضطراً وكانت الحكمة في إبعاده بالهبوط هذا الاضطرار والدعاء فإنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف
١١٤
السوء فبسابقه العناية أخذ بيده وأفاض عليه سجال رحمته ﴿فَتَابَ عَلَيْه إِنَّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ للتائبين فأخرج من نبات الكلمات شجرة الاجتباء وأظهر على دوحتها زهرة التوبة وأثمر منها ثمرة الهداية وهي المعرفة كما قال :﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٣
﴿قُلْنَا﴾ استئناف مبني على سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا وقع بعد قبول توبته فقيل قلنا :﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ أي : من الجنة ﴿جَمِيعًا﴾ نصب على الحال من ضمير الجمع تأكيد في المعنى للجماعة من آدم وحواء وإبليس والحية والطاووس كأنه قيل اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد وكرر الأمر بالهبوط إيذاناً بتحتم مقتضاه وتحققه لا محالة ودفعاً لما عسى يقع في أمنيته عليه السلام من استتباع قبول التوبة للعفو عن ذلك ولأن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فاختلف المقصود وكان يصح لو قرن المعنيان بذكر الهبوط مرة لكن اعترض بينهما كلام وهو تلقيه الكلمات ونيله قبول التوبة فأعاد الأول ليتصل المعنى الثاني به وهو الابتلاء بالعبادة والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.
قال في "الإرشاد" : والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة وما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصداً أولياً بل إنما هو دائر على سوء اختيار المكلفين.
ثم إن في الآية دليلاً على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصية واحدة وهذا كما قال القائل :
إذا تم أمر دنا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم
إذا كنت في نعمة فارعها
فإن المعاصي تزيل النعم