قال الله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى﴾ أي : أن يأتينكم والفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به ﴿هُدَى﴾ أي : رشد وبيان شريعة برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم والخطاب في قوله يأتينكم لآدم والمراد ذريته وإبليس وذريته لم يأتهم كتاب ولا رسول ولا يكون منهم اتباع وجواب الشرط هو الشرط الثاني مع جوابه وهو قوله تعالى :﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ أي : اقتدى بشريعتي وكرر لفظ الهدى ولم يضمر بأن يقال فمن تبعه لأنه أراد بالثاني أعم من الأول وهو ما أتى به الرسل من الاعتقاديات والعمليات واقتضاه العقل أي : فمن تبع ما أتاه من قبل الشرع مراعياً فيه ما يشهد به العقل من الأدلة الآفاقية والأنفسية ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الدارين من لحوق مكروه ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ من فوات مطلوب فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع أي : لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن أصلاً بل يستمرون على السرور والنشاط كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٤
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عطف على من تبع الخ قسيم له كأنه قيل ومن لم يتبعه الخ وإنما أوثر عليه ما ذكر تفظيعاً لحال الضلالة وإظهاراً لكمال قبحها وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشعار بكثرة الكفرة أي : والذين كفروا برسلنا المرسلة إليهم ﴿وَكَذَّبُوا بِاَايَـاتِنَآ﴾
١١٥
المنزلة عليهم أو كفراً بالآيات جناناً وكذبوا بها لساناً ﴿أُوالَـائِكَ﴾ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب ﴿أَصْحَـابُ النَّارِ﴾ ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها.
وفي الصحبة معنى الوصلة فسموا أصحابها لاتصالهم بها وبقائهم فيها فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها ﴿هُمْ فِيهَا﴾ أي : في النار ﴿خَـالِدُونَ﴾ دائمون والجملة في حيز النصب على الحالية ففي هاتين الآيتين دلالة على أن الجنة في جهة عالية دل عليه قوله تعالى :﴿اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ وأن متبع الهدى مأمون العاقبة لقوله تعالى :﴿فَلا خَوْفٌ﴾ الخ وأن عذاب النار دائم والكافر فيه مخلد وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى :﴿هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾ فإنه يفيد الحصر.
واعلم أن الشرف في اتباع الهدى كما قيل :
سك أصحاب كهف روزي ند
بي نيكان كرفت مردم شد
فالمؤمن بين أن يطيع الله فيثيبه بالنعيم وبين أن يعصيه فيعاقبه بالجحيم ومن العجب أن الجمادات وغير المكلفين من العباد يخافون عذاب الله ويقومون بحقوق الله ولا يخافه المكلفون كما روى عن مالك بن دينار رحمه الله أنه مر يوماً على صبي وهو يلعب بالتراب يضحك تارة ويبكي أخرى قال : فهممت أن أسلم عليه فامتنعت نفسي تكبراً فقلت : يا نفس كان النبي صلى الله عليه وسلّم يسلم على الصغار والكبار فسلمت عليه فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا مالك بن دينار فقلت : من أين عرفتني ولم تكن رأيتني فقال : حيث التقت روحي بروحك في عالم الملكوت عرف بيني وبينك الحي الذي لا يموت فقلت : ما الفرق بين العقل والنفس قال : نفسك التي منعتك عن السلام وعقلك الذي بعثك عليه فقلت : ما بالك تلعب بهذا التراب فقال : لأنا منه خلقنا وإليه نعود فقلت : أراك تضحك تارة وتبكي أخرى قال : نعم إذا ذكرت عذاب ربي بكيت وإذا ذكرت رحمته ضحكت فقلت : يا ولدي أي : ذنب لك حتى تبكي؟ فقال : يا مالك لا تقل هذا فإني رأيت أمي لا توقد الحطب الكبار إلا ومعه الحطب الصغار، قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٥
طفل يك روزه همي داند طريق
كه بكيرم تارسد دايه شفيق
تو نمي داني كه دايه دايكان
كم دهد بي كريه شير او رايكان
كفت فليبكوا كثيراً كوش دار
تا بريزد شير فضل كردكار