والإشارة في تحقيق الآيتين أن الله تعالى لما ابتلى آدم بالهبوط إلى الأرض بشره بأن إلهامه ووحيه لا ينقطع عنه ولا ينقطع عن ذريته هداه بواسطة أنبيائه ووحيه وإنزال كتبه فإما يأتينكم مني هدى فمن أتاه منهم هدى من إلهامي ووحيي ورسولي وكتابي فمن تبع هداي كما تبعه آدم بالتوبة والنوح والبكاء والاستغفار وتربية بذر المحبة بالطاعة والعبودية حتى تثمر التوحيد والمعرفة فلا خوف عليهم في المستقبل من وبال إفساد بذر المحبة من طينة الصفات الحيوانية والسبعية وإبطال استعداد السعادة الأبدية باستيفاء التمتعات الدنيوية ولا هم يحزنون على هبوطهم إلى الأرض لتربية بذر المحبة إذ هم رجعوا بتبع الهداية وجذبات العناية إلى أعلى ذروة حظائر القدس كما قال تعالى :﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ (العلق : ٨) ثم ذكر من كفر بهداه وجعل النار مثواه فقال :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي : ستروا بذر المحبة بتعلقات الشهوات النفسانية وظلموا
١١٦
على أنفسهم بتكذيب الآيات البينات من الجهالة الإنسانية حتى أفسدوا الاستعداد الفطري وكذبوا بآياتنا أي : معجزات أنبيائنا وكتبنا وما أنزلنا على الأنيباء بالوحي والإلهام والرشد في تربية بذر المحبة وتثمير الشجرة الإنسانية بثمار التوحيد والمعرفة والبلوغ إلى درجات القربات ونعيم الجنات والغرفات أولئك أصحاب النار نار جهنم ونار القطيعة ﴿هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾ لأنهم خلدوا في أرض الطبيعة واتبعوا أهواءهم فما نبت بذر محبتهم بماء الشريعة فبقوا بإفساد استعدادهم في دركات الجحيم وخسران النعيم خالدين مخلدين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٥
يا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} البنون اسم للذكور والإناث إذا اجتمعوا وإسرائيل اسم يعقوب عليه السلام ومعناه عبد الله لأن إسرا بلغة العبرانية وهي لغة اليهود بمعنى العبد وإيل هو الله أي : يا أولاد يعقوب والخطاب لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلّم الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وكانوا من أولاد يعقوب وتخصيص هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفر الناس نعمة وأكثرهم كفراً بها ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ الذكر بضم الذال بالقلب خاصة بمعنى الحفظ الذي يضاد النسيان والذكر بكسر الذال يقع على الذكر باللسان والذكر بالقلب يكون أمراً بشكر النعمة باللسان وحفظها بالجنان أي : احفظوا بالجنان واشكروا باللسان نعمتي لأن النعمة اسم جنس بمعنى الجمع قال تعالى :﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ﴾ (النحل : ١٨) ﴿الَّتِى أَنْعَمْتُ﴾ بها ﴿عَلَيْكُمْ﴾ وفيه إشعار بأنهم قد نسوها بالكلية ولم يخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط وتقييد النعمة بكونها عليهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ولذا قيل لا تنظر إلى من هو فوقك في الدنيا لئلا تزدري بنعمة الله عليك فإن من نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر.
قال أرباب المعاني ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى ذكره فقال :﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة : ١٥٢) ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد من المنعم إلى النعمة والنعمة ما لم يحجبك عن المنعم ﴿وَأَوْفُوا﴾ أتموا ولا تتركوا ﴿بِعَهْدِى﴾ الذي قبلتم يوم الميثاق وهو عام في جميع أوامره من الإيمان والطاعة ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ما عهده تعالى إليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلّم والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً فحالاً والمراد منه الموثق والوصية والعهد هنا مضاف إلى الفاعل
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٧
﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ أتمم جزاءكم بحسن الإثابة والقبول ودخول الجنة والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد وهو هنا مضاف إلى المفعول فإن الله عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ووعد لهم بالثواب على حسناتهم وأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ومن الله حقن المال والدم وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث تغفل عن أنفسنا فضلاً عن غيرنا ومن الله الفوز باللقاء الدائم كما قال القشيري ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى﴾ في دار الحجبة ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ في دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأنس والرؤية وأوفوا بعهدي بقولكم أبداً ربي ربي أوف بعهدكم بجوابكم أبداً عبدي عبدي ﴿وَإِيَّـاىَ﴾ نصب بمحذوف تقديره وإياي ارهبوا ﴿فَارْهَبُونِ﴾ فيما تأتون وتذرون وخصوصاً في نقض العهد
١١٧


الصفحة التالية
Icon