لا بارهبون لأن ارهبون قد أخذ مفعوله والأصل ارهبوني لكن حذفت الياء تخفيفاً لموافقة رؤوس الآي والفاء الجزائية دالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون والرهبة خوف معه تحرز والآية متضمنة للوعد لقوله :﴿أُوفِ﴾ والوعيد لقوله :﴿وَإِيَّـاىَ فَارْهَبُونِ﴾ دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله للحصر المستفاد من تقديم إياي ﴿وَءَامِنُوا﴾ يا بني إسرائيل ﴿بِمَآ أَنزَلْتُ﴾ إفراد الإيمان بالقرآن بالأمر به بعد اندراجه تحت العهد لما أنه العمدة القصوى في شأن الوفاء بالعهد أي : صدقوا بهذا القرآن الذي أنزله على محمد ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ﴾ أي : حال كون القرآن مصدقاً للتوراة لأنه نازل حسبما نعت فيها وتقييد المنزل بكونه مصدقاً لما معهم لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعاً ﴿وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ﴾ فريق ﴿كَافِرا بِهِ﴾ أي : بالقرآن فإن وزر المقتدي يكون على المبتدي كما يكون على المقتدي، قال في "المثنوي" :
هر كه بنهد سنت بد اي فتا
تادر افتد بعد أو خلق ازعما
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٧
جمع كردد بروى آن جمله بزه
كوسري بودست وايشان دم غزه
أي : لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون شأنه وحقيقته بطريق التلقي مما معكم من الكتب الإلهية كما تعرفون أبناءكم وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون بزمانه فلا تضعوا موضع ما يتوقع منكم ويجب عليكم ما لا يتوهم صدوره عنكم من كونكم أول كافر به.
ودلت الآية على أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة فكذبه يهود.
المدينة ثم بنوا قريظة وبنوا النضير ثم خيبر ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِاَايَـاتِى﴾ أي : لا تأخذوا لأنفسكم بدلاً منها.
﴿ثَمَنًا قَلِيلا﴾ هي الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالنسبة إلى ما فات عنهم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان.
قيل : كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم ويهدون إليهم الهدايا ويعطونهم الرشى على تحريفهم الكلم وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع وكان ملوكهم يجرون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا فلما كان لهم رياسة عندهم ومآكل منهم خافوا أن يذهب ذلك منهم أي : من الأحبار لو آمنوا بمحمد واتبعوه وهم عارفون صفته وصدقه فلم يزالوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويغيرون نعت محمد صلى الله عليه وسلّم كما حكي أن كعب بن الأشرف قال لأحبار اليهود ما تقولون في محمد؟ قالوا : إنه نبي قال لهم : كان لكم عندي صلة وعطية لو قلتم غير هذا قالوا : أجبناك من غير تفكر فأمهلنا نتفكر وننظر في التوراة فخرجوا وبدلوا نعت المصطفى بنعت الدجال ثم رجعوا وقالوا ذلك فأعطى كل واحد منهم صاعاً من شعير وأربعة أذرع من الكرباس فهو القليل الذي ذكره الله في هذه الآية الكريمة، قال في "المثنوي" :
بود در انجيل نام مصطفا
آن سر بيغمبران بحر صفا
بود ذكر حليها وشكل أو
بود ذكر غزو وصوم وأكل أو
﴿وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ﴾ بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن حطام الدنيا وأعاده لأن معنى
١١٨
الأول اخشوا في نقض العهد وهذا معناه في كتمان نعت محمد أو لأن الخطاب بالآية الأولى لما عم العالم والمقلد أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك وبالثانية لما خص أهل العلم أمرهم بالتقوى الذي هو منتهاه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٧
﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ﴾ عطف على ما قبله واللبس بالفتح الخلط أي : لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميز بينهما أو لا تجعلوا الحق ملتبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله أو تذكرونه في تأويله لا ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ بإضمار لا أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع أي : لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه فقوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل هو نهي عن التغيير وقوله وتكتموا الحق هو نهي عن الكتمان لأنهم كانوا يقولون لا نجد في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلّم فاللبس غير الكتمان ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي حال كونكم عالمين بأنكم لابسون كاتمون أو وأنتم تعلمون أنه حق نبي مرسل وليس إيراد الحال لتقييد المنتهى به بل لزيادة تقبيح حالهم إذ الجاهل قد يعذر.


الصفحة التالية
Icon