قال القرطبي في "تفسيره" بعد إيراد هذه الحكاية قلت : هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء انتهى.
وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم لهذه الآية ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِاَايَـاتِى ثَمَنًا قَلِيلا﴾ والفتوى في هذا الزمان على جواز الاستئجار لتعليم القرآن والفقه وغيره لئلا يضيع قال صلى الله عليه وسلّم "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" والآية في حق من تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجراً فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك كما إذا كان الغسال في موضع لا يوجد من يغسل الميت غيره كما في القرى والنواحي فلا أجر له لتعينه لذلك وأما إذا كان ثمة ناس غيره كما في الامصار والمدن فله الأجر حيث لم يتعين عليه فلا يأثم بالترك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته.
ويجب على الإمام أن يعين له شيئاً وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثياباً وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال : ومن أين أنفق على عيالي؟ فردوه وفرضوا له كفايته وكذا يجوز للإمام والمؤذن وأمثالهما أخذ الأجرة وبيع المصحف ليس بيع القرآن بل هو بيع الورق وعمل أيدي الكاتب.
وقالوا في زماننا تغير الجواب في بعض مسائل لتغير الزمان وخوف اندراس العلم والدين منها ملازمة العلماء أبواب السلاطين ومنها خروجهم إلى القرى لطلب المعيشة ومنها أخذ الأجرة لتعليم القرآن والأذان والإمامة ومنها العزل عن الحرة بغير إذنها ومنها السلام على شربة الخمور ونحوها فأفتى بالجواز منها خشية الوقوع فيما هو أشد منها وأضر كذا في "نصاب الأحساب" وغيره، قال في "المثنوي" :
عاشقانرا شادماني وغم أوست
دست مزد واجرت خدمت هم أوست
غير معشوق ازتماشايي بود
عشق نبود هرزه سودايي بود
عشق آن شعله است كوون برفروخت
هركه جز معشوق باقي جمله سوخت
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٩
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ﴾ خطاب لبني إسرائيل أي : اقبلوها واعتقدوا فرضيتها وأدوها بشرائطها وحدوها كصلاة المسلمين فإن غيرها كلا صلاة.
﴿وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ﴾ كزكاة المؤمنين فإن غيرها كلا زكاة، والزكاة من زكى الزرع إذا نما فإن إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم أو من الزكاء بمعنى الطهارة فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل.
واعلم أن الكفار لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات كالصلاة والصوم ولا يعاقبون بتركها عند الحنفية فالتكليف عندهم راجع إلى الاعتقاد والقبول ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي : في جماعاتهم فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس فإن الصلاة كالغزو والمحراب كمحل الحرب ولا بد للقتال من صفوف الجماعة فالجماعة قوة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :"ما اجتمع من المسلمين في جماعة أربعون رجلاً إلا وفيهم رجل مغفور له" فالله تعالى أكرم من أن يغفر له
١٢١
ويرد الباقي خائبين خاسرين.
وإنما فضلت صلاة الجماعة على الفذ بسبع وعشرين لأن الجماعة مأخوذة من الجمع والجمع أقله ثلاثة وصلاة الإنسان وحده بعشر حسنات وعشر حسنات فيها واحداً أصل والتسع تضعيف بفضل الله تعالى فإذا اجتمعت التضعيفات كانت سبعاً وعشرين.
قال القرطبي في "تفسيره" : وتجب على من أدمن التخلف عن الجماعة من غير عذر العقوبة.
قال أبو سليمان الداراني أقمت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة فأحدثت بها حدثاً فما أصبحت إلا احتلمت وكان الحدث أن فاتته صلاة العشاء بجماعة.
وفي الحديث "ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد فرضاً أحب إليه من الصلاة ولو كان شيء أحب إليه من الصلاة لتعبد به ملائكته فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد" وينبغي للمصلي أن يبالغ في الحضور فكان السلف لو شغلهم ذكر مال يتصدقون به تكفيراً فالأصل عمل الباطن قال تعالى :﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى﴾ (النساء : ٤٣) أي : من حب الدنيا أو كثرة الهموم ولا ينظر الله تعالى إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه فلا بد من دفع الخواطر، قال في "المثنوي" :
أول أي : جان دفع شر موش كن
وانكه اندر جمع كندم كوش كن
بشنو از اخبار آن صدر صدور
لا صلاة تم إلا بالحضور
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٩


الصفحة التالية
Icon