قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي في وصاياه للعارف الهدائي قدس الله سرهما : إذا شرعت في الصلاة لا تتفكر في غير إظهار العبودية وتتميمها فإنه إذا تم العبودية يحصل المقصود وأما في غير الصلاة فليكن فكرك وملاحظتك نفي نفسك وإثبات وحدانيته تعالى فإنه المقصود لتوحيد ولا شيء أفضل من التوحيد ولذلك كان أول التكاليف فبعد قبول العبد التوحيد كلف بالصلاة ثم كلف بالصوم لأن فيهما إصلاح الطبيعة وبعدهما بالزكاة وفيها إصلاح النفس بإزالة شحها ثم بالحج وفيه نفع للطبيعة من جهة وللنفس من جهة بذل المال وقدم الثلاث الأول لعمومها للأغنياء والفقراء وأما الأخيران فالفقراء سالمون منهما ثم قال : إذا كان بيت الأغنياء من الجواهر يكون بيت الفقراء من النور حتى يتمنوا أن يكونوا فقراء، قال في "المثنوي" :
مكرهاً دركسب دنيا باردست
مكرهاً در ترك دنيا واردست
يست دنيا ازخد ا غافل شدن
نى قماش ونقره فرزند وزن
كوزه سربسته اندر آب زفت
از دل رباد فوق آب رفت
باد درويشي ودر باطن بود
بر سر آب جهان ساكن بود
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ﴾ بمراقبة القلوب وملازمة الخضوع والخشوع ﴿وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ﴾ أي : بالغوا في تزكية النفس عن الحرص على الأمور الدنيوية والأخلاق الذميمة وتطهير القلب عن رؤية الأعمال السيئة وترك مطالبة ما سوى الله فإنه مع طلب الحق زيادة والزيادة على الكمال نقصان.
﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي : اقتدوا في الانكسار ونفي الوجود بالمنكسرين الباذلين الوجود لنيل الموجود.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٩
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ﴾ الخطاب لليهود والأمر القول لمن دونك افعل والمراد بالناس سفلتهم ﴿بِالْبِرِّ﴾ أي : الاعتراف بالنبي واتباع الأدلة وهو التوسع في الخير من البر الذي هو الفضاء الواسع والهمزة تقرير مع توبيخ
١٢٢
وتعجيب.
﴿وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ وتتركونها من البر كالمنسيات لأن أصل السهو والنسيان الترك إلا أن السهو يكون لما علمه الإنسان ولما لم يعلمه والنسيان لما عزب بعد حضوره كانوا يقولون لفقرائهم الذين لا مطمع لهم فيهم بالسر آمنوا بمحمد فإنه حق وكانوا يقولون للأغنياء نرى فيه بعض علامات نبي آخر الزمان دون بعض فانتظروا الاستيفاء لما ينالون منهم ويؤخرون أمور أنفسهم فلا يتبعونه في الحال مع عزيمتهم أن يتبعوه يوماً وكذا حال من تمادى فى العصيان وهو يقول : أتوب عند الكبر والشيب وربما يفجأه الموت فيبقى في حسرة الفوت.
قال الحافظ :
ديدى آن قهقهة كبك خرامان حافظ
كه زسر نجه شاهين قضا غافل بود
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٢
﴿وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـابَ﴾ أي : والحال أنكم تتلون التوراة الناطقة بنعوته صلى الله تعالى عليه وسلم الآمرة بالإيمان به ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أي : ليس لكم عقل تعرفون به أنه قبيح منكم عدم إصلاح أنفسكم والاشتغال بغيركم.
والعقل في الأصل المنع والإمساك ومنه العقال الذي يشد به وظيف البعير إلى ذراعيه لحبسه عن الحراك سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل على ما يحسن ومحله الدماغ لأن الدماغ محل الحس وعند البعض محله القلب لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس وعند البعض هو نور في بدن الآدمي.
ثم هذا التوبيخ ليس على أمر الناس بالبر بل لشرك العمل به فمدار الإنكار والتوبيخ هي الجملة المعطوفة وهي جملة تنسون أنفسكم دون ما عطفت هي عليه وهي أتأمرون الناس بالبر ولا يستقيم قول من لا يجوز الأمر بالمعروف لمن لا يعمل به لهذه الآية بل يجب العمل به ويجب الأمر به وقد قال عليه السلام :"مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه" وهذا لأنه إذا أمر به مع أنه لا يعمل به فقد ترك واجباً وإذا لم يأمر به قد ترك واجبين فالأمر بالحسن حسن وإن لم يعمل به ولكن قلما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه ومن أمر بخير فليكن أشد الناس مسارعة إليه ومن نهى عن شيء فليكن أشد الناس انتهاء عنه.
وهذه الآية كما ترى ناعية على من يعظ غيره ولا يعظ نفسه سوى صنيعه وعدم تأثره وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحق وتقيم غيرها لا منع الفاسق من الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر ـ يروى ـ أنه كان عالم من العلماء مؤثر الكلام قوي التصرف في القلوب وكان كثيراً ما يموت من أهل مجلسه واحداً واثنان من شدة تأثير وعظه وكان في بلده عجوز لها ابن صالح رقيق القلب سريع الانفعال وكانت تحترز عليه وتمنعه من حضور مجلس الواعظ فحضره يوماً على حين غفلة منها فوقع من أمر الله تعالى ما وقع ثم إن العجوز لقيت الواعظ يوماً في الطريق فقالت :
أتهدي الأنام ولا تهتدي
ألا إن ذلك لا ينفع
فيا حجر الشحذ حتى متى