الأول : إنه محمول على الحقيقة كما ذهب إليه بعض أهل التفسير ويؤيده ما قال في "الكشاف" وقد مر بي في بعض الكتب إن رجلاً أمسى فاحم العشر كحلك الغراب أي سواده وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة بياضاً وهو بفتح الثاء المثلثة وبالغين المعجة نبت أبيض قال أريت القيامة والجنة والنار ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار فمن هول ذلك أصبحت كما ترون وقال أحمد الدورقي مات رجل من جيراننا شاباً فرأيته في اللل وقد شاب فقلت وما قصتك قال دفن بشر في مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من في المقبرة كما في فصل الخطاب وبشر المريسي ومريس قرية بمصر أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام وقال بخلق القرآن وأضل خلقاً كثيراً ببغداد فإن قلت إيصال الألم والضرر إلى الصبيان يوم القيامة غير جائز بل هم لكونهم غير مكلفين معصومون محفوظون عن كل خطر قلت قد يكون في القيامة من هيبة المقام ما يجثوبه الأنبياء عليهم السلام على الركب فما ظنك بغيرهم من الأولياء والشيوخ والشبان والصبين وفي الآية مبالغة وهي إنه إذا كان ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً وهم أبعد الناس من الشيخوخة لقرب عهد ولادتهم فغيرهم أولى بذلك وكذا في القصة السابقة فإن من شاب بمجرد الرؤي فكيف حاله في اليقظة وهو معاين من الأهوال ما يذوب تحته الجبال الرواسي.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٠٣
والثاني : إنه محمول
٢١٦
على التمثيل بأن شبه اليوم في شدة هوله بالزمان الذي يشيب الشبان لكثرة همومه وأهواله وأصله إن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب لأن كثرة الهموم توجب انعصار الروح إلى داخل القلب وذلك الانعصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وضعفها وانطفاِا يوجب بقاء الأجزاء الغدائية غير تامة النضج وذلك يوجب بياض العشر ومسارعة الشيب بتقدير العزيز الحكيم كما يوجب تغير القلب تغير البشرة فتحصل الصفرة من لوجل والحمرة من الخجل والسواد من بعض الآلام وما على البدن من الشعر تابع للبدن فتغيره يوجب تغيره فثبت إن كثرة الهموم توجب مسارعة الشيب كما قيل :
دهتنا أمور تشيب الوليد
ويخذل فيها الصديق الصديق
فلما كان حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوه كناية عن الشدة فجعل اليوم المذكور لولدان شيباً
عبارة عن كونه يوماً شديداً غاية الشدة وفي الحديث "يقول الله" : أي في يوم القيامة "يا آدم" خص آدم عليه السلام بهذا الخطاب لأنه أصل الجميع "فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول اخرج بعث النار" أي ميز ألها المبعوث إليها "قال وما بعث النار" أي عدده "قال الله تعالى من كل ألف تسعمائة تسعة وتسعون قال" أي النبي عليه السلام "فذلك" التقاول "حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها" قال ابن الملك اعلم أن الشيب والوضع ليسا على ظاهر هما إذ ليس في ذلك اليوم حبل ولا صغير بل هما كنايتان عن شدة أهوال يوم اليامة معناه لو تصورت الحوامل والصغار هنالك لوضعن أحمالهن ولشاب الصغار انتهى.
وفي بيانه نظر ستأتي الإشارة إليه في الوجه الثالث "وترى الناس سكارى" أي من الخوف "وما هم بسكارى" أي من الخمر "ولكن عذاب الله شديد".
والثالث : إنه محمول على الفرض والتقدير بأن يكون معناه إن ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة والدهشة وهذا الوجه غير موجه وإن ذهب إليه بعض من يعد من أجلة أهل التفسير إذ هو يشعر بأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان حقيقة وقد ثبت إنه يبعث يومئذٍ ولدان كثيرة ماتوا في الصغر وكذا من المقرران الحبلى تبعث حبلى ففي ذلك اليوم حبل وضغير نعم إذا دخلوا الجنة صاروا باء ثلاث وثلاثين.
والرابع : إنه يجوز ذلك وصفاً لليوم بالطول يعني على الكناية بأنه في طوله بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخة والشيب وهو لا ينقضي بعد بل يمتد إلى حيث يكون مقداره خمسين ألف سنة فهو كناية عن اية الطول لا إنه تقدير حقيقي يعني أن هذا على عادة العرب في التعبير عن الطول على سبيل التمثيل كما يعبرون عن التأييد وعدم الانقطاع بقولهم ما ناحت حمامة وما لاح كوكب وما تعاقبت الأيام والشهور وفي الآية إشارة إلى النفس والهوى وعد نفوسهم من الله في يوم قيامة الفناء الذي يجعل ولدان أعمالهم السيئة القبيحة الخبيثة الخسيسة شيباً منهدمة متفانية ﴿السَّمَآءَ﴾ مبتدأ خبره قوله ﴿مُنفَطِرُا بِهِ﴾ أي منشق بسبب ذلك اليوم لأن الله تعالى مسبب الأسباب فيجوز أن يجعل شدة ذلك اليوم سبباً للانفطار.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٠٣
ذكر الله من هول ذلك اليوم أمرين الأول قوله تعالى :[المزمل : ١٧، ١٨]﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾
٢١٧