القلب فملكه واستأسر النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلاً فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا قال الله تعالى قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴿إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ﴾ مرتب على ما قبله من إعطاء الحواس فإنه استئناف تعليلي لجعله سميعاً بصيراً يعني إن إعطاء الحواس الظاهرة والباطنة والتحلى بها متقدم على الهداية والمعنى أريناه وعرفناه طريق الخير والشر والنجاة والهلاك بإنزال الآيات ونصب الدلائل كما قال وهديناه النجدين أي بيا له طريق الخير والشر فإن النجد الطريق الواضح المرتفع فالمراد بالهداية مجرد الدلالة لا الدلالة الموصلة إلى البغية كما في بعض التفاسير ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ حالان من مفعول هديناه قال في الإرشاد أي مكناه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البغية في حالتيه جميعاً فأما التفصيل ذي الحال فإنه مجمل من حيث الدلالة على الأحوال لا يعلم إن المراد هدايته في حال كفره أو في حال إيمانه وبالتفصيل تبين إنها تعلقت به في كل واحدة من لحالين فالشاكر الموحد والكفور الجاحد لأن الشكر الإقرار بالنمعم ورأس الكفر إن جحوده ويقال شاكر النعمة وكفورها.
قال الراغب : الكفور يقال في كافر النعمة وكافر الدين جميعاً ويجوز أن يكون إما للتقسيم بأن يعتبر ذو الحال من حيث إنه مطلق وهو اللفظ الدال على الماهية من حيث هي ويجعل كل واحد من مدخولي إما قيداً له فيحصل بالتقيد بكل منهما قسم منه أي مقسوماً إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ في وبعضهم كفور بالإعراض عنه وإيراد لكفور لمراعاة الفواصل أي رؤوس الآي والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما وإنما المؤاخذة عليه الكفر المفرط والشكور قليل منهم ولذا لم يقل إما شكوراً وإما كفوراً وإما شاكراً وإما كافراً والحاصل إن الشاكر والكفور كنايتان عن المثاب والمعاقب ولما لم يكن مجرد الكفران مستلزماً للمواخذة لم يصح أن يجعل كناية عنها بخلاف مجرد الشكر فإنه ملزوم الإثابة بمقتضى وعد الكريم فأدير أمر الإثابة على مطلق الشكر لا على المبالغة فيه كما أدير المؤاخذة على المبالغة في لكفران لا على أصله وكل ذلك بمقتضى سعة رحمة الله وسبقها على غضبه وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة في إما وهي قراءة حسنة والمعنى إما كون شاكراً فبتوفيقنا وإما كونه كفوراً فبسوء اختياره.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٥٨
وفي التأويلات النجمية : إنا خيرناه في الاهتداء إلى سبيل التنكر المتعلق باليد اليمنى الجمالية أو إلى سبيل الكفر المتعلق باليد اليسرى الجلالية فاختار بعضهم سبيل الشكر من مقتضى حقائقهم واستعداداتهم الأزلية واختار بعضهم سبيل الكفر من مقتضى حقائقهم وقابلياتهم الأزلية أيضاً كما قال هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وهؤلاء أهل النار ولا أبالي أي المدح والذم يتعلق بهم لأبي ولما ذكر الفريقين اتبعهما الوعيد والوعد فقال ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا﴾ هيأنا في الآخرة فإن الاعتاد إعداد الشي حتى يكون عتيداً حاضرا متى احتيج إليه ﴿لِلْكَـافِرِينَ﴾ من أفراد الإنسان الذي هيناه السبيل ﴿سَلَـاسِلا﴾ بها يقادون إلى جهنم وفي "كشف الأسرار" اعتدنا للكافرين في جهنم سلاسل كل سلسلة سبعون ذراعاً وهو بغير تنوين في قراءة حفص وإما الوقف فبالألف تارة وبدونها أخرى وتسلسل الشيء اضطراب كأنه تصور
٢٦١
منه تسلسل وتردد فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه ومنه السلسلة وفي "القاموس" السلسلة أي بالفتح إيصال الشيء بالشيء وبالكسر دائرة من حديد ونحوه ﴿وَأَغْلَـالا﴾ بها يقيدون إهانة وتعذيباً لا خوفاً من الفرار جمع غل بالضم وهو ما تطوق به الرقبة للتعذي وقدسبق في الحاقة مفصلاً ﴿وَسَعِيرًا﴾ ناراً بها يحرقون يعني وآتشى أفروخته كه دران يوسته بسوزند.
وإنمايجرون إلى جهنم بالسلاسل لعدم انقيادهم للحق ويحقرون أن يقيدوا بالأغلال لعدم تواضعهمويحرقون بالنار لعدم احتراقهم بنار الخوف من الله تعالى وفيه إشارة إلى أن الله تعالى أعد للمحجوبين عن الحق المشغولين بالخلق سلاسل التعلقات الظاهرة بحب الدنيا وطلبها وإغلال العوائق الباطنة بالرغبة إليها وفيا ونار جهنم البعد والطرد واللعن وتقديم وعيد الكافرين مع تأرهم في مقام الإجمال للجمع بينهما في الذكر ولأن الإنذار أهم وأنفع وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن في وصفهم تفصيلاً ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم ﴿إِنَّ الابْرَارَ﴾ شروع في بيان حسن حال الشاركين أثر بيان سوء حال الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية والأبرار جمع بر كرب وأرباب أو جمع بار كشاهد وإشهاد وهو من يبر خالقه أي يطيعه يقال بررته أبره كعلمته وضربته وعن الحسن رحمه الله البر من لا يؤذي الذر ولا يضمر الشر كما قيل :
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٥٨
ولا تؤذ نمو إن أردت كمالكا
فإن لها نفسها تطيب كمالكا