فكان رسول الله يكرمه ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي أي لامني مع بقاء المحبة ويقول له هل لك من حاجة ويقال إن رسول الله عليه السلام، لم يغتم في عمره كغمه حين أنزلت عليه سورة عبس لأن فيها عتباً شديداً على مثله لأنه الحبيب الرشيد ومع ذلك فلم يجعل ذلك الخطاب بينه وبينه فيكون أيسر للعتاب بل كشف بذلك للمؤمنين ونبه على فعله عباده المتقين ولذلك روى أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن بعض المنافقين يؤم قومه فلا يقرأ فيهم إلا سورة عبس فأرسل إليه فضرب عنقه لما استدل بذلك على كفره ووضع مرتبته عنده وعند قومه قال ابن زيد لو جاز له أن يكتم شيئاً من الوحي لكان هذا وكذا نحو قوله لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ونحو قوله أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وكان ما فعله عليه السلام، من باب ترك الأولى فلا يعد ذنباً لأن اجتهاده عليه السلام، كان في طلب الأولى والتعرض لعنون عماه مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه وهو ينافي تعظيمه المفهوم من العتاب على العبوس في وجهه إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام، للقوم والإيذان باستحقاقه الرفق والرأفة لا الغلظة وإما لزيادة الإنكار فإن أصل الإناكر حصل من دلالة المقام كأنه قيل تولى لكونه أعمى وهو لا يليق بخلقه العظيم كما إن الالتفات في قوله تعالى
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٣٠
﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ لذلك فإن المشافهة أدخل في تشديد العتبا كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ أي وأي شيء يجعلك دارياً وعالماً بحاله ويطعلك على باطن أمره حتى تعرض عنه أي لا يدريك شيء فتم الكلام عنده فيوقف عليه وليس ما بعده مفعوله بل هو ابتداء كلام وقال الامام السهيلي رحمه الله، انظر كيف نزلت الآية بلفظ الأخبار عن الغائب فقال :[عبس : ١-٣]﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ ولم يقل عبست وتوليت وهذا شبيه حال الغائب المعرض ثم أقبل عليه بمواجهة الخطابفقال وما يدريك علماً منه تعالى إنه لم يقصد بالإعراض عنه إلا الرغبة في الخير ودخول ذلك المشرك في الإسلام وهو الوليد أو أمية وكان مثله يسلم بإسلامه بشر كثير فكلم نبيه عليه السلام حين ابتدار الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب له ثم واجهه بالخطاب تأنيساً له عليه السلام، بعد الإيحاش فإنه قيل إن ابن أم
٣٣١
مكتوم كان قد أسلم وتعلم ما كان يحتاج إليه من أمور الدين وأما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم فكلامه في البين سبب لقطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل وذلك محرم وإلا هم مقدم على المهم فثبت بهذا إن فعل ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية وما فعله النبي عليه السلام كان واجباً فكيف عاتبه الله على ذلك قيل إن الأمر وإن كان كما ذكر إلا أن ظاهر ما فعله الرسول عليه السلام يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء وهو لا يليق بمنصب النبوة لأنه ترك الأفضل كما أشير إليه سابقاً فلذا عاتبه الله تعالى لعله} أي الأعمى ﴿يَزَّكَّى﴾ بتشديدين أصله يتزكى أي يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الأوزار بالكلية وكلمة لعل مع تحقق التزكي وارد على سنن الكبرياء فإن لعل في كلام العظماء يراد به القطع والتحقيق أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه عليه السلام، للتنبيه على أن الإعراض عنه عند كونه مرجوا التزكي مما لا يجوز فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكي كما في قولك لعلك ستندم على ما فعلت ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ بتشديدين أيضاً أصله يتذكر والتذكر هو الاتعاظ يعني باخود ند كيرد ﴿فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ أي فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام وفي "الكشاف" المعنى إنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزكى أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك انتهى.
إشار إلى أن قوله يزكي من باب التخلية عن الآثام وقوله أو يذكر من باب التحلية ببعض الطاعات ولذا دخلت كلمة الترديد فقوله أو يذكر عطف على بزكي داخل معه في حكم الترجي وقوله فتنفعه الذكرى بالنصب على جواب لعل تشبيهاً له بليت وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً وإشعار بأن اللائق بالعلم أن يقصد بتعليمه تزكية متعلمة ولا ينظر إلى شبحه وصورته كما ينظر العوام وبالمتعلم أن يريد بتعلمه تزكية نفسه عن أرجاس الضلال وتطهير قلبه من أدناس الجهالة لا أحكام الدنيا الدنية
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٣٠