أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون ما علمتنا وما أرشدتنا أو بغضاً لهم كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما إن يفر قابيل منأخيه هابيل ويفر النبي من أمه وإبراهيم من أبيه ونوح من ابنه ولوط من امرأته فليس من قبيل الفرار المذكور وكذا ما يروى إن الرجل بفر من أصحابه وأقربائه لئلا يروه على ما هو عليه من سوء الحال قال بعض المشايخ من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربه وقال يحيى بن معاذ إذا شغلتك نفسك في دنياك وعقباك عن ربك إما في الدنيا ففي طلب مرادها وأتباع شهواتها وإما في الآخرة فكما أخبر الله عنه بقوله :﴿لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم﴾ الخ فمتى تفرغ إلى معرفة ربك وطاعته وقال بعضهم : العارف مع الخلق ولكنه يفارقهم بقلبه كما قيل :
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٣٠
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي
وابحت جسمي من أراد جلوسي
وجوه يومئذٍ مسفرة} بيان لمآل أمر المذكورين وأنقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء فوجوه مبتدأ أو إن كانت نكرة لكونها في حيز التنوين ومسفرة خبره ويومئذٍ أي يوم إذ يفر لمرء متعلق به أي مضيئة متهللة بنورية ذواتهم وصفاتها من أسفر الصبح إذا أضاء فهو من لوازم الأفعال قال في المفردات : الأسفار يختص باللون ومسفرة أي مشرق لونها وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن ذلك من قيام الليل وفي الحديث "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" وعن الضحاك من آثار الوضوء وقيلم ن طول ما أغبرت في سبيل الله ﴿ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ بما تشاهد من النعيم المقيم والهبجة الدائمة.
(قال الكاشفي) : ضاحكة خندان مستبشرة شادمنان وفرحناك بسبب نجات ازنيران ووصول بورضه جنان.
وفي بعض التفاسير ضاحكة مسرورة فرحة لما علم من الفوز والسعادة أو لفراغه من الحساب بالوجه اليسير مستبشرة أي ذات بشارة بالخير كأنه بيان لقوه ضاحكة انتهى.
وفي عين المعاني ضاحكة من مسرة العين مستبشرة من مسرة القلب وقيل : من الكفار شماتة وبأنفسهم فرحاً وقال ابن طاهر رحمه الله كشف عنها سترو الغفلة فضحكت بالدنو من احق واستبشرت بمشاهدته وقال ابن عطاء رحمه الله أسفرت تلك الوجوه بنظرها إلى مولاها وأضحكها رضي الله عنها، وقال سهل رحمه الله نمورة بنور التوحيدو اتباع السنة.
وفي التأويلات النجمية : وجوه أرباب الأرواح ولأسرار والقلوب العارفين بالمعارف الإلهية والحقائق اللاهوتية مضيئة بأنوار العلوم والحكم ضاحكة مستبشرة بنعم المكاشفات ومنح المشاهدات.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٣٠
يقول الفقير : وجوه يومئذٍ مسفرة لابيضاضها في الدنيا بالتزكية والتصفية وزوال كدورتها ضاحكة لأنها بكت في الله أيام دنياها حتى صارت عيماء عن رؤية ما سوى الله تعالى مطلقاً كما وقع لشعيب ويعقوب عليهما السلام مستبشرة لأمنها بدل خوفها في الدنيا ولذا قال لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة بأن تقول لهم الملائكة لا تخافوا وأبشروا بالجنة والرؤية والضحك انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس
٣٤١
ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان ضواحك ويستعمل في السرور المجرد كما في الآية.
قال الراغب : واستبشر أي وجد ما يبشره من الفرح وبشرته أخبرته بسار بسط بشرة وجهه وذلك إن لنفس إذا سرت انتشرت الدم انتشار الماء في الشجرة ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ أي غبار وكدورة وفي الخبر يلجم الكافر العرق ثم تقع الغبرة على وجوههم وقيل هي غبرة الفراق والذل ﴿تَرْهَقُهَا﴾ أي تعلوها وتغشاها ﴿قَتَرَةٌ﴾ أي سواد وظلمة كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما إذا أغر وجه الزنجى.
قال الراغب : القتر هو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما وقترة نحو غبرة وذلك شبه دخان يغشى الوجه من الكذب قال السري قدس سره ظاهر عليها حزن البعاد لأنها صارت محجوبة من الباب مطرودة وقال سهل قدس سره غلب عليها أعراض الله عنها وقته إياها فهي تزداد في كل وقت ظلمة وقترة ﴿أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ أي أولئك الموصوفون بسواد الوجه وغبرته هم الجامعون بين الكفر والفجور فلذا جمع الله إلى سواد وجوههم الغبرة وفي الحديث :"إن البهائم إذا صارت تراباً يوم اقيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار" وفي عين المعاني أولئك هم الكفرة في حقوق الله الفجرة في حقوق العباد انتهى.
وفيه إشارة إلى أن الفجور الغير المقارن بالكفر ليس في درجة المقارن في المذمومية والسببية للحقارة والخذلان إذ أصل الفجور الكذب والميل عن الحق ويستعمل في الذنب الكبير وكثيراً ما يقع ذلك من المؤمن العاصي لكن ينبغي أن يخاف منه ويحذر عنه لأن كبائر الذنب تجر إلى الكفر كما إن صغائره تجر إلى الكبائر.


الصفحة التالية
Icon