ـ حكي ـ أنه كان بالبصرة رجل معروف بالمسكى لأنه كان يفوح منه رائحة المسك فسئل عنه فقال : كنت من أحسن الناس وجهاً وكان لي حياء فقيل لأبي : لو أجلسته في السوق لانبسط مع الناس فأجلسني في حانوت بزاز فجازت عجوز وطلبت متاعاً فأخرجت لها ما طلبت فقالت : لو توجهت معي لثمنه فمضيت معها حتى أدخلتني في قصر عظيم فيه قبة عظيمة فإذا فيها جارية على سرير عليه فرش مذهبة فجذبتني إلى صدرها فقلت : الله الله فقالت : لا بأس فقلت : إني حازق فدخلت الخلاء وتغوطت ومسحت به وجهي وبدني فقيل : إنه مجنون فخلصت ورأيت الليلة رجلاً قال لي : أين أنت من يوسف بن يعقوب ثم قال : أتعرفني؟ قلت : لا قال : أنا جبريل ثم مسح بيده على وجهي بودني فمن ذلك الوقت يفوح المسك علي من رائحة جبريل عليه السلام وذلك ببركة التقوى.
والتقوى في عرف الشرع وقاية النفس عما يضرها في الآخرة وهي على مراتب : الأولى التوقي عن العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى :﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾، والثانية التجنب عن كل إثم وهو المتعارف باسم التقوى وهو المعنى بقوله تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَـابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلادْخَلْنَـاهُمْ﴾، والثالثة التنزه عن جميع ما يشغله وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى :﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ومن هذا القبيل ما حكي عن ذي النون المصري أنه لما جاء إليه بغض الوزراء وطلب الهمة وأظهر الخشية من السلطان قال له : لو خشيت أنا من الله كما تخشى أنت من السلطان لكنت من جملة الصديقين :
كرنبودي اميد راحت ورنج
اي درويش بر فلك بودي
وروزير ازخدا بترسيدي
همنان كزملك ملك بودي
فينبغي للسالك أن يتقي ربه ويراقب الله في جميع أحواله كما قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ والمراقبة : علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه فاستدامته لهذا العلم مراقبة لربه وهذا أصل كل خير ولا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف وأصلح حاله في الوقت ولازم طريق الحق وأحسن ما بينه وبين الله من مراعاة القلب وحفظه مع الله الأنفاس وراقب الله سبحانه في عموم أحواله فيعلم أنه عليه رقيب ومن قلبه قريب يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة؟ قال سليمان بن علي لحميد الطويل : عظني قال : لئن كنت عصيت الله خالياً وظننت أنه يراك فقد اجترأت على أمر عظيم ولئن كنت تظن أنه لا يراك فقد
١٦٠
كفرت لقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
وكان بعض الصالحين له تلامذة وكان يخص واحداً منهم بإقباله عليه أكثر مما يقبل على غيره فقالوا له في ذلك فقال : أبين لكم فدفع لكل واحد من تلامذته طائراً وقال له : اذبحه بحيث لا يراك أحد ودفع إلى هذا أيضاً فمضوا ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طيره وجاء هذا بالطير حياً فقال له : هلا ذبحته؟ فقال : أمرتني أن أذبحه بحيث لا يراه أحد ولم أجد موضعاً لا يراه أحد فقال : لهذا أخصه بإقبالي عليه.
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٥٩
﴿وَءَاتُوا الْيَتَـامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ اليتامى جمع يتيم وهو من الناس المنفرد عن الأب بموته ومن سائر الحيوانات عن الأم وحق هذا الاسم أن يقع على الصغير والكبير لبقاء معنى الانفراد عن الأب إلا أنه غلب استعماله في الصغير لاستغناء الكبير بنفسه عن الكافل فكأنه خرج عن معنى اليتيم وهو الانفراد والمراد بإيتاء أموالهم قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها وكف أكفهم الخاطفة عن اختزالها وتركها على حالها غير متعرض لها بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة لا الإعطاء بالفعل فإنه مشروط بالبلوغ وإيناس الرشد وإنما عبر عما ذكر بالإيتاء مجازاً للإيذان بأنه ينبغي أن يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجرد ترك التعرض لها والمعنى أيها الأولياء والأوصياء احفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها إليهم وقت استحقاقهم تسليمها إليهم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦١


الصفحة التالية
Icon