واعلم أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة في المهر لأن قوله تعالى :﴿وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء : ٢٢) لا يدل على حصول الآلهة.
والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كذا قال الإمام في تفسيره ويؤيد ما قيل في "مرشد المتأهلين" أن المرأة التي يراد نكاحها يراعى فيها خفة المهور قال صلى الله عليه وسلّم "خير نسائكم أحسنهن وجوهاً وأخفهن مهوراً" وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم نساءه على عشرة دراهم وأثاث البيت وكان رحى وجرة ووسادة من أديم حشوها ليف وفي الخبر "من بركة المرأة سرعة تزوجها وسرعة رحمها إلى الولادة ويسر مهرها" ولا بد للرجل أن يوفيها صداقها كملاً أو ينوي ذلك فمن نوي أن يذهب بصداقها جاء يوم القيامة زانياً كما أن من استدان ديناً وهو ينوي أن لا يقضيه يصير سارقاً ولا يماطل مهرها إلا أن يكون فقيراً أو تؤجله المرأة طوعاً ويعلمها أحكام الطهارة والحيض والصلاة وغير ذلك بقدر ما تؤدي بها لواجب ويلقنها اعتقاد أهل السنة ويردها عن اعتقاد أهل البدعة وإن لم يعلم فليسأل ولينقل إليها جواب المفتي وإن لم يسأل فلا بد لها من الخروج للسؤال ومتى علمها الفرائض فليس لها الخروج إلى تعلم أو مجلس ذكر إلا برضاه فمهما أهمل المرء حكماً من أحكام الدين ولم يؤدبها ولم يعلمها أو منعها عن التعلم شاركها في الإثم وفي الحديث "أشد الناس عذاباً يوم القيامة من أجهل أهله" قال عليه السلام :"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨١
﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾ ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة.
وقوله من النساء بيان لما نكح واسم الآباء ينتظم الأجداد مجازاً كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم ﴿إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناء مما نكح مفيد للمبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال أي لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من ماتت منهن والمقصود سد طريق الإباحة بالكلية ونظيره قوله تعالى :﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ (الأعراف : ٤٠) ﴿إِنَّهُ﴾ أي نكاحهن ﴿كَانَ فَـاحِشَةً﴾ أي فعلة قبيحة ومعصية شديدة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم ﴿وَمَقْتًا﴾ ممقوتاً
١٨٤
عند ذوي المروآت والمقت أشد البغض ﴿وَسَآءَ سَبِيلا﴾ نصب على التمييز أي بئس السبيل سبيل من يراه ويفعله فإنه يؤدي صاحبه إلى النار.
قيل : مراتب القبح ثلاث : القبح العقلي وإليه أشير بقوله :﴿إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً﴾، والقبح الشرعي وإليه أشير بقوله :﴿مَقْتًا﴾، والقبح العادي وإليه الإشارة بقوله :﴿وَسَآءَ سَبِيلا﴾ ومتى اجتمعت فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح.
والإشارة في الآية أن الآباء هي العلويات والأمهات هي السفليات وبازدواجهما خلق الله تعالى المتولدات منهما فيما بينهما ففي قوله تعالى :﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾ إشارة إلى نهي التعلق والتصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرفة فيها آباؤكم العلوية ﴿إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح والأشباح فالحاجات الضرورية للإنسان مسيسة به ﴿إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلا﴾ يعني التصرف في السفليات والتعلق بها والركون إليها مما يلوث الجوهر الروحاني بلوث الصفات الحيوانية ويجعله سفلي الطبع بعيداً عن الحضرة محباً للدنيا ناسياً للرب ممقوتاً للحق وساء سبيلاً إلى الهداية بالضلالة، قال حافظ :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٤
غلام همت آنم كه زير ر كبود
زهره رنك تعلق ذيرد آزاداست
قال مولانا الجامي :
أي كه درشرع خداوتدان حال
ميكني ازسنت وفرضم سؤال
سنت آمد دل زدنيا تافتن
فرض راه قرب مولا يافتن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن أقرب الناس مجلساً إلى الله يوم القيامة من طال حزنه وجوعه في الدنيا افترش الناس الفراش وافترش الأرض فالراغب من رغب في مثل ما رغبوا والخاسر من خالفهم أكلوا الشعير ولبسوا الخرق وخرجوا من الدنيا سالمين"، قال مولانا جلال الدين :
هركه محجوبست أوخود كودكيست
مرد آن باشدكه بيرون از شكيستأي خنك آنكه جهادي ميكند
بر بدن زجرى ودادي ميكند
أي بساكاراكه أول صعب كشت
بعد ازان بكشاده شد سختي كذشتاندرين ره مي تراش و مي خراش
تا دمي آخر دمي فارغ مباش قال أبو علي الدقاق : ـ رحمه الله ـ : من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سريرته بالمشاهدة قال الله تعالى :﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت : ٦٩).