تعبدكم به من الحلال والحرام ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي يدلكم على مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ يرجع بكم عن معصيته إلى طاعته بالتوفيق للتوبة ما كنتم عليه من الخلاف وليس الخطاب لجميع المكلفين حتى يتخلف مراده عن ارادته فيمن لم يتب منهم بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بكم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يريده لكم ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ بيان لكمال منفعة ما اراده الله تعالى وكمال مضرة ما يريد الفجرة بخلاف الأول فإنه بيان ارادته تعالى لتوبته عليهم فلا تكرار ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ﴾ يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها وأما المتعاطي لما سوغه الشرع من المشتهيات دون غيره فهو متبع له لا لها.
وقيل المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت فلما حرمهن الله تعالى قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمة والخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت ﴿أَن تَمِيلُوا﴾ عن القصد والحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات وتكونوا زناة مثلهم ﴿مَيْلا عَظِيمًا﴾ أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة بلا استحلال ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ﴾ ما في عهدتكم من مشاق التكاليف فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص ﴿وَخُلِقَ الانسَـانُ ضَعِيفًا﴾ عاجزاً عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبر عن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات.
قال الكلبي : أي لا يصبر عن النساء.
قال سعيد بن المسيب ما أيس الشيطان من ابن آدم إلا أتاه من قبل النساء وقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف على نفسي فتنة النساء.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : اللهم إني أعوذ بك من أن أزني وأسرق فقيل له كبر سنك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتخاف على نفسك من الزنى والسرقة؟ قال : كيف آمن على نفسي وإبليس حي؟ قال الحافظ :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
ه جاي من كه بلغزد سهر شعبده باز
ازين حيل كه در انبانه بهانه تست
والإشارة في تحقيق الآيات أن الله تعالى أنعم على هذه الأمة بإرادة أربعة أشياء : أولها التبيين وهو أن يبين لهم صراط المستقيم إلى الله، وثانياً الهداية وهو أن يهديهم إلى الصراط المستقيم بالعيان بعد البيان، وثالثها التوبة عليهم وهي أن يرجع بهم إلى حضرته على صراط الله، ورابعها التخفيف عنهم وهو أن يوصلهم إلى حضرته بالمعونة ويخف عنهم المؤونة.
وهذا مما اختص به نبينا عليه السلام وأمته لوجهين : أحدهما أن الله أخبر عن ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى حضرته باجتهاده وهو المؤونة بقوله :﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الصافات : ٩٩) وأخبر عن موسى عليه السلام بمجيئه وهو أيضاً المؤونة وقال :﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا﴾ وأخبر عن حال نبينا عليه السلام بقوله :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا﴾ وهو المعونة فخفف عنه المؤونة وأخبر عن حال هذه الأمة بقوله :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت : ٥٣) وهو أيضاً بالمعونة وهي جذبات العناية، والوجه الثاني أن النبي
١٩٣
صلى الله عليه وسلّم وأمته مخصوصون بالوصول والوصال مخفف عنهم كلفة الفراق والانقطاع فأما النبي عليه السلام فقد خص بالوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى وبالوصال بقوله :﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ (النجم : ١١) وانقطع سائر الأنبياء عليهم السلام في السموات السبع كما رأى ليلة المعراج آدم في سماء الدنيا إلى أن رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة فعبر عنهم جميعاً إلى كمال القرب والوصول.
وأما الأمة فقال في حقهم "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" فهذا هو حقيقة الوصول والوصال ولكن الفرق بين النبي والولي في ذلك أن النبي مستقل بنفسه في السير إلى الله والوصول ويكون حظه من كل مقام بحسب استعداده الكامل والولي لا يمكنه السير إلا في متابعة النبي وتسليكه في سبيل الله ﴿قُلْ هَـاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى﴾ (يوسف : ١٠٨) ويكون حظه من المقامات بحسب استعداده فينبغي أن يسارع العبد إلى تكميل المراتب والدرجات برعاية السنة وحسن المتابعة لسيد الكائنات.
قال جنيد البغدادي قدس سره مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة.
قال علي كرم الله وجهه : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
كرت بايدكه بيني روي إيمان