وثانيها حب الدنيا فإنه مطية كثير من الكبائر مثل القتل والظلم والغصب والنهب والسرقة والربا وأكل مال اليتيم ومنع الزكاة وشهادة الزور وكتمانها واليمين الغموس والحيف في الوصية وغيرها واستحلال الحرام ونقض العهد وأمثاله ولهذا قال تعالى :﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ وقال عليه السلام :"حب الدنيا رأس كل خطيئة" وعنه صلى الله عليه وسلّم "أتاني جبريل وقال : إن الله تعالى قال : وعزتي وجلالي إنه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حب الدنيا" :
عاقلان ميل بسويت نكند اي دنيا
هم اميد كرم ولطف تو جاهل دارد
هركه خواهد بكنداز تو مرادي حاصل
حاصل آنست كه انديشه باطل دارد
وثالثها رؤية الغير فإن منها ينشأ الشرك والنفاق والرياء وأمثاله ولهذا قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ (النساء : ٤٨) وقال عليه السلام :"اليسير من الرياء شرك".
وقال بعض المشايخ : وجودك ذنب لا يقاس به ذنب آخر فمن تخلص من ذنب وجوده فلا يرى غير الله فلا ينتشىء منه الشرك ولا حب الدنيا وتخلص من الهوى فيتحقق له الوصول واللقاء قال تعالى :﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا﴾ (الكهف : ١١٠) لعمري أن هذا لهو المدخل الكريم والفوز العظيم والنعيم المقيم، فعلى العاقل أن يتخلص من الأغيار ويشاهد في المجالي أنوار الواحد القهار.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٤
كره زندانست بر صاحب دلان
هركجا بويى زوصل يار نيست
هي زندان عاشق محتاج را
تنك تراز صحبت أغيار نيست
ولذا قيل : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وما سوى الحق أغيار، قال إبراهيم عليه السلام :
١٩٧
﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ﴾ فلا بد للسالك أن يجتهد في سلوكه ويتخلص من رق الغير كي يصل إلى المراد والعاشق الصادق لا يكون في عبودية غير معشوقة ولا يتسلى عن الدنيا والآخرة إلا بوصاله فليس له مطلب سواه :
عاشق كه زهجر دوست دادي خواهد
يابر در وصلش ايستادي خواهد
ناكس ترا زو كس نبود درعالم
كزدوست بجزدوست مرادي خواهد
وهذا مقام شريف ومطلب عزيز أوصلنا الله تعالى وإياكم ﴿وَلا تَتَمَنَّوا﴾ التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ﴿مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أي عليكم أن لا تتمنوا ما أعطاه الله بعضكم من الأمور الدنيوية كالجاه والمال وغير ذلك مما يجري فيه التنافس دونكم فإن ذلك قسمة من الله تعالى صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد مترتب على الإحاطة بجلائل شؤونهم ودقائقها.
فعلى كل أحد من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده عليه لما أنه معارضة لحكمة القدر فالانصباء كالاشكال وكما أن اختلاف الأشكال مقتضى حكمة إلهية لم يطلع على سرها أحد فكذلك الأقسام.
وقيل : لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله تعالى :﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ فإنه صريح في جريان التمني بين فريق الرجال والنساء والمعنى لكل من الفريقين في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور ﴿وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ أي لا تتمنوا ما يختص بغيركم من نصيبه المكتسب له واسألوا الله تعالى ما تريدون من خزائن نعمه التي لا نفاد لها فإنه يعطيكموه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا﴾ فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان ففضله عن علم وحكمة وتبيان وفي الحديث "لن يزال الناس بخير ما تباينوا" أي تفاوتوا "فإذا تساووا هلكوا" وذلك لاختلال النظام المرتبط بذلك.
وقد يقال معناه أنه لا يغتم لتفاوت الناس في المراتب والصنائع بأن يكون مثلاً بعضهم أميراً وبعضهم سلطاناً وبعضهم وزيراً وبعضهم رئيساً وبعضهم أهل الصنائع لتوقف النظام عليه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٤