﴿إِلا أَن تَتَّقُوا﴾ استثناء من أعم الأحوال كأنه قيل : لا تتخذوهم أولياء ظاهراً وباطناً في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم ﴿مِنْهُمْ﴾ أي : من جهتهم ﴿تُقَـاـاةً﴾ أي : اتقاء بأن تغلب الكفار أو يكون المؤمن بينهم فإن إظهار الموالاة حينئذٍ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من شق العصا وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام :(كن وسطاً وامش جانباً) أي : كن فيما بينهم صورة وتجنب عنهم سيرة (ولا تخالطهم مخالطة الاوداء ولا تتيسر بسيرتهم) وهذا رخصة فلو صبر حتى قتل كان أجره تعظيماً ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أي : يخوفكم الله ذاته المقدسة كقوله تعالى :﴿فَاتَّقُونِ﴾ (البقرة : ٤١) ﴿وَاخْشَوْنِى﴾ (البقرة : ١٥٠) أي : من سخطي وعقوبتي فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ أي : إلى جزاء الله مرجع الخلق فيجزي كلاً بعمله ﴿قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ﴾ من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفرة ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ فيما بينكم ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم إليه ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ﴾ لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سركم وعلنكم وهو من باب إيراد العام بعد الخاص تأكيداً له وتقريراً ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على عقوبتكم بما لا مزيد عليه إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى :﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ لأن نفسه وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون المعلوم فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور فهي قادرة على المقدورات كلها فكان حقها أن تحذر وتتقي فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر على واجب فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ولا حق به العذاب ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله مما يورد ويصدر ونصب عليه عيوناً وبث من يتجسس عن بواطن أموره لأخذ حذره وتيقظ في أمره واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به فما بال من علم أن الله الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك كذا في "الكشاف".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩
فالعاقل يخاف من الله ويكون حبه وبغضهيوالي المؤمنين ويعادي الكافرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أربعة من الكبائر لبس الصوف لطلب الدنيا وادعاء محبة الصالحين وترك فعلهم وذم الأغنياء والأخذ منهم ورجل لا يرى الكسب ويأكل من كسب الناس".
كر آنهاكه ميكفتمي كردمي
نكو سيرت ارسا بودمي
والحب في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان وخلق سني والمحبة الصادقة لا تكون إلا عند المصافاة في الباطن وهي مبنية على اتفاق العقيدة والوجهة لأن القلوب تتناسب فتتصافى فإن لم يكن بينها التوافق المعنوي واتفق بين أربابها المصالحة والمؤانسة بحسب المماثلة النوعية والإلفة النفسية والجنسية الصورية أعدت الرذائل صاحب الفضائل باستغراق النفس فتشابه وتخالق كما قيل :
عن المرء لا تسأل وابصر قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال علي رضي الله عنه :
٢٠
(فلا تصحب أخا الجهل
وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى
حليماً حين أخاه
يقاس المرء بالمرء
إذا م هو ما شاه
وللقلب على القلب
دليل حين يلقاه
وإذا كان الرجل مبتلي بصحبة الفجار في سفره للحج أو للغزاء لا يترك الطاعة بصحبتهم ولكن يكره بقلبه ولا يرضى به فلعل الفاسق يتوب ببركة كراهة قلبه.
ـ حكي ـ أن حاتماً وشقيقاً خرجا في سفر فصحبهما شيخ فاسق وكان يضرب بالمعزف في الطريق ويطرب ويغني وكان حاتم ينتظر أن ينهاه شقيق فلم يفعل ذلك فلما كان في آخر الطريق وأرادوا أن يتفرقوا قال لهما ذلك الشيخ الفاسق : لم أر أثقل منكما قد طربت بين أيديكما كل الطرب فلم تنظرا إلى طربي فقال له حاتم : يا شيخ اعذرنا فإن هذا شقيق وأنا حاتم فتاب الرجل وكسر ذلك المعزف وجعل يتلمذ عندهما ويخدمهما فقال شقيق لحاتم : كيف رأيت صبر الرجال؟
نه آنكه بر در دعوى نشيند از خلقي
كه كر خلاف كنندش بجنك برخيزد
وكر زكوه فرو غلطد آسيا سنكي
نه عارفست كه از راه سنك برخيزد
وينبغي أن يعلم أن المؤمن كما يلزم له أن يقطع الموالاة عن الكفار كذلك يقطع ذلك عن الأقرباء الفجار كما قيل :
ون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهتر از مودت قربى
فإن قلت : هذا مخالف للقرآن فإنه ناطق بصلة الأرحام مطلقاً، قلت : هو موافق كما قال تعالى :﴿وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ (لقمان : ١٥) فمن تسبب لشقاوتك يجب تقاطعك عنه وإن كان ذا قرابتك :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩
هزار خويش كه بيكانه از خدا باشد
فداي يك تن بيكانه كاشنا باشد


الصفحة التالية
Icon