فإذا حصل المقصود ووصل العابد إلى المعبود فحينئذٍ يصح منه بالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين الآية لأن الإحسان صفات الله تعالى لقوله تعالى :﴿الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة : ٧) والإساءة من صفات الإنسان لقوله :﴿إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ﴾ (يوسف : ٥٣) فالعبد لا يصدر منه الإحسان إلا أن يكون متخلقاً بأخلاق نفسه كما قال تعالى :﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ (النساء : ٧٩) وفيه إشارة أخرى وهي أن شرط العبودية الإقبال على الله بالكلية والإعراض عما سواه ولا يصدر منه الإحسان إلا إذا اتصف بأخلاق الله حتى يخرج من عهدة العبودية بالوصول إلى حضرة الربوبية فتفنى عنك به وتبقى به للوالدين وغيرهما محسناً لإحسانه بلا شرك ولا رياء فإن الشرك والرياء من بقاء النفس ولهذا قال عقيب الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا﴾ لأن الاختيال والفخر من أوصاف النفس والله تعالى لا يحب النفس ولا أوصافها لأن النفس لا تحب الله ولا المحبة من أوصافها فإنها تحب الدنيا وزخارفها وما يوافق مقتضاها قال صلى الله عليه وسلّم "الشرك أخفى في ابن آدم من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء" ومن خدم مخلوقاً خوفاً من مضرته أو طمعاً في منفعته فقد أشرك عملاً :
كه داند و دربند حق نيستي
اكر بي وضو درنماز استي
بروى ريا خرقة سهلست دوخت
كرش باخدا درتواني فروخت
اكرجز بحق ميرود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
قال تعالى :﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا﴾ (الفرقان : ٢٣) يعني الأعمال التي عملوها لغير وجه الله أبطلنا ثوابها وجعلناها كالهباء المنثور وهو الغبار الذي يرى في شعاع الشمس وجاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال : يا رسول الله إني أتصدق بالصدقة فالتمس بها وجه الله تعالى وأحب أن يقال لي فيه خير فنزل قوله تعالى :﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ﴾ (الكهف : ١١٠) يعني من خاف المقام بين يدي الله تعالى ويريد ثوابه ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا﴾ (الكهف : ١١٠) رزقنا الله وإياكم الإخلاص.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٥
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بما منحوا به وهو مبتدأ خبره محذوف أي احقاء بكل ملامة ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ به أي بما منحوا به عطف على ما قبله ﴿وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ أي من المال والغنى ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ وضع الظاهر موضع المضمر إشعار بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله ومن كان كافراً بنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحة لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٥
﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِاـاَآءَ النَّاسِ﴾ أي للفخار وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا لابتغاء وجه الله وهو عطف على الذين يبخلون ورئاء الناس مفعوله وإنما شاركهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق فيما لا ينبغي من حيث أنه طرفا تفريط وإفراط سواء في القبح واستتباع الذم واللوم ﴿وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ ليحوزوا بالإنفاق مراضيه وثوابه وهم مشركوا مكة المنفقون أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ومن يكن الشيطان
٢٠٧
له قريناً فساء قريناً".
أي : بئس الصاحب والمقارن الشيطان وأعوانه حيث حملوهم على تلك القبائح وزينوها لهم ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ أي على من ذكر من الطوائف ﴿لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ ابتغاء لوجه الله لأن ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة أي وما الذي عليهم في الإيمان بالله تعالى والإنفاق في سبيل وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطاً فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ﴾ وبأحوالهم المحققة ﴿عَلِيمًا﴾ فهو وعيد لهم بالعقاب فقد أخبر الله تعالى بدناءة همة الأشقياء وقصور نظرهم وأنهم يقنعون بقليل من الدنيا الدنية ويحرمون من كثير من المقامات الأخروية السنية ولا ينفقونه في طلب الحق ورضاه بل ينفقونه فيما لا ينبغي :
هركه مقصودش ازكرم آنست
كه بر آرد بعالم آوازه
باشد از مصر فضل وجود وكرم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٧


الصفحة التالية
Icon