ـ روي ـ أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد إلى آخرها بطرح اللا آت فنزلت فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ثم نزل تحريمها وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهي عن إقامتها للمبالغة في ذلك.
قال في "التيسير" ثم النهي ليس عن عين الصلاة فإنها عبادة فلا ينهى عنها بل هو نهي اكتساب السكر الذي يعجز به عن الصلاة على الوجه.
قال الإمام أبو منصور رحمه الله : وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا صلاة للعبد الآبق ولا للمرأة الناشزة" ليس فيه النهي عن الصلاة لكن النهي عن الاباق والنشوز وهذا لأن الاباق والنشوز والسكر ليست بالتي تعمل في إسقاط الفرض فالمعنى لا تقيموها حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولون إذ بتلك التجربة يظهر أنهم يعلمون ما سيقرؤنه في الصلاة والسكر اسم لحالة تعرض بين المبرء وعقله وأكثر ما يكون من الشراب وقد يكون من العشق والنوم والغضب والخوف لكنه حقيقة في الأول فيحمل عليه هنا.
والسكارى جمع سكران كالكسالى جمع كسلان وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع السكران وشراؤه ويؤاخذ بالاستهلاكات والقتل والحدود وصح طلاقه وعتاقه عقوبة له عندنا خلافاً للشافعي ﴿وَلا جُنُبًا﴾ عطف على قوله : وأنتم سكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً.
والجنب من أصابته الجنابة يستوي في المؤنث والمذكر والواحد والجمع لجريانه مجرى المصدر وأصل الجنابة البعد والجنب مبعد عن القراءة والصلاة وموضعها ﴿إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ﴾ استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير لا تقربوا باعتبار تقيده بالحال الثانية دون الأولى والعامل فيه النهي أي لا تقربوا الصلاة جنباً في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين فتعذرون بالسفر فتصلون بالتيمم ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ غاية للنهي عن قربان الصلاة حالة الجنابة.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه وأن يزكي نفسه عما يدنسها ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية عند إمكان أعاليها ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى﴾ جمع مريض.
والمرض على ثلاثة أقسام :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٢
أحدها أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة.
٢١٢
وثانيها أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة ويشتد مرضه أو يمتد.
وثالثها أن لا يخاف الموت ولا الآلام الشديدة لكنه يخاف بقاء شين أو عيب في البدن فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين وما جوزوه في القسم الثالث ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر وإيراده مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته وتعليق التيمم بالمرض والسفر مع أتم الحكم كذلك في كل موضع تحقق العجز حتى قال أبو حنيفة : يجوز التيمم للجنابة في المصر إذا عدم الماء الحار لأن العجز عن استعمال الماء يقع فيها غالباً ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآاـاِطِ﴾ وهو المكان المنخفض المطمئن والمجيء منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس ﴿أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ﴾ أي جامعتموهن يعني إذا أصابكم المرض أو السفر أو الحدث أو الجنابة ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً﴾ أي لم تقدروا على استعماله لعدمه أو لبعده أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو والرشاء أو المانع عنه من حية أو سبع أو عدو ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ فاقصدوا شيئاً من وجه الأرض طاهراً.
قال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً أو غيره وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" إلى المرفقين لما روي أنه صلى الله عليه وسلّم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ولأنه بدل من الوضوء فيتقدر بقدره والباء زائدة أي فامسحوا وجوهكم وأيديكم منه أي من الصعيد ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ تعليل للترخيص والتيسر وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخطائين ويغفر للمذنبين لا بد من أن يكون ميسراً لا معسراً.


الصفحة التالية
Icon