﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾ أي : منكم ﴿بِأَعْدَآاـاِكُمْ﴾ جميعاً ومن جملتهم هؤلاء وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون لكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلم بحالهم ومآل أمرهم ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ الباء مزيدة ﴿وَلِيًّا﴾ متكفلاً في جميع أموركم ومصالحكم أو محباً لكم ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ في كل المواطن فثقوا به واكتفوا بولايته ونصرته ولا تتولوا غيره أو لا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء فإنه تعالى معين يكفيكم مكرهم وشرهم ففيه وعد
٢١٤
ووعيد.
والإشارة أن من رزق شيئاً من علم الكتاب ظاهراً ولم يرزق أسراره وحقائقه وهم علماء السوء المداهنون في دين الله حرصاً على الدنيا وطمعاً في المال والجاه وحباً للرياسة والقبول ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَـالَةَ﴾ وهي المداهنة واتباع الهوى فيبيعون الدين بالدنيا ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ يا معشر العلماء الأتقياء وورثة الأنبياء وطلاب الحق من بين الخلق عن سبيل الحق بما يحسدونكم وينكرون عليكم ويلومونكم ويؤذونكم بطريق النصح وإظهار المحبة ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَآاـاِكُمْ﴾ فلا تقبلوا نصيحتهم فيما يقطعون عليكم طريق الحق ويردونكم عنه ويصدونكم عن الله بالتحريض على طلب غير الله ورعاية حق غير الله وأطيعوا أمر الله تعالى فيما أمركم به.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٢
واعلم أنك لا ترى حالاً أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والإضلال وأكثر ما يكونان في العلماء يطمعون فيما في أيدي الخلق فيداهنون فيضلون فسبب زوال المداهنة قطع الطمع.
ـ روي ـ عن بعض المشايخ إنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكراً وأخرج السنور أولاً ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب : لا أعطيك بعد اليوم لسنورك شيئاً فقال : ما أحتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك فهو كما قال : فمن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة لم يتيسر له الحسبة.
فعلى العاقل أن يزكي نفسه عن الأخلاق الرديئة ويطهرها من الخصال الذميمة :
ون طهارت نبود كعبه وبتخانه يكيست
نبود خير در آن خانه كه عصمت نبود
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٢
﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : من الذين هادوا قوم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ الكَلِم اسم جنس ولذا ذكر الضمير في مواضع وجمع المواضع لتكرره في التوراة في مواضع بحسب الجنس أي : يزيلون لأنهم لما غيروه ووضعوا مكانه غيره فقد أزالوه عن مواضعه التي وضعه الله فيها وأمالوه عنها.
والتحريف نوعان : أحدهما صرف الكلام إلى غير المراد بضرب من التأويل الباطل كما يفعل أهل البدعة في زماننا بالآيات المخالفة لمذاهبهم.
والثاني : تبديل الكلمة بأخرى وكانوا يفعلون ذلك نحو تحريفهم في نعت النبي صلى الله عليه وسلّم أسمر ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طوال مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي عليه السلام أم لا بلسان المقال والحال ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك عناداً وتحقيقاً للمخالفة ﴿وَاسْمَعْ﴾ أي : قولنا ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ حال من المخاطب وهو كلام ذو وجهين : أحدهما المدح بأن يحمل على معنى اسمع غير مسمع مكروهاً، والثاني الذم بأن يحمل على منى أسمع حال كونك غير مسمع كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعوا عليك بلا سمعت لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع فكان أصم غير مسمع فكأنهم قالوا ذلك تمنياً لأجابة دعوتهم عليه كانوا يخاطبون به النبي عليه السلام مظهرين له إرادة المعنى الأول وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأخير مطمئنون به ﴿وَرَاعِنَا﴾ كلمة ذات جبهتين أيضاً : محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانتظرنا واصرف سمعك إلى كلامنا نكلمك، وللشر بحملها على السب بالرعونة أي الحمق
٢١٥
أو بإجرائها مجرى شبهها من كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي راعنا كانوا يخاطبون به النبي صلى الله عليه وسلّم ينوون الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والاحترام.
فإن قلت : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : سمعنا وعصينا؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء حشمة منه عليه السلام وخوفاً من بطش المؤمنين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٥


الصفحة التالية
Icon