يا اأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} أي التوراة ﴿بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا﴾ من القرآن حال كونه ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم﴾ من التوراة ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم بالاعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عين الموافقة من حيث أن كلاً منهما حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعاً ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي" ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا﴾ الطمس محو الآثار وإزالة الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها من عين وحاجب وأنف وفم ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ﴾ فنجعلنا على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما نجعلها كخف البعير وحافر الدابة فتكون الفاء للتسبيب أي بأن نردها على أدبارها أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها على أنهم توعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر طمسها ثم ردها على أدبارها ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ أو نخزي أصحاب الوجوه بالمسخ.
﴿كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـابَ السَّبْتِ﴾ مسخناهم قردة وخنازير ووقوع الوعيد مشروط بالإيمان ومعلق به وجوداً وعدماً بمعنى إن وجد منهم الإيمان لم يقع وإلا وقع وقد وجد الإيمان منهم حيث آمن ناس منهم فلم يقع الوعيد ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ أي عذابه ﴿مَفْعُولا﴾ كائناً لا محالة وهذا وعيد شديد لهم يعني : أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعاً لا محالة فكونوا على حذر من هذا الوعيد وارجعوا عن الكفر إلى الإيمان والإقرار بالتوبة والاستغفار.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧
اعلم أن المسخ قد وقع في هذه الأمة أيضاً، ومنه ما روي عن أبي علقمة أنه قال : كنت في قافلة عظيمة فأمرنا رجلاً نرتحل بأمره وننزل بأمره فنزلنا منزلاً وهو يشتم أبا بكر وعمر فقلنا له في ذلك فلم يجب إلينا بشيء فلما أصبحنا وأوقرنا وأصلحنا الراحلة لم يناد مناديه فجئناه ننظر ما حاله وما يصنع فإذا هو متربع وقد غطى رجليه بكساء له فكشفنا عنهما فإذا هو قد صار رجلاه كرجلي الخنازير فهيأنا راحلته وحملناه
٢١٧
إليها فوثب من راحلته وقام برجليه وصاح ثلاث مرات صيحة الخنازير واختلط بالخنازير وصار خنزيراً حتى لا يعرفه منا أحد كذا في "روضة العلماء".
ـ روي ـ أن واحداً من رواة الأحاديث تحول رأسه رأس حمار لإنكار وقوع مضمون حديث صحيح ورد في حق المقتدي بالإمام الرافع رأسه قبله أو واضعه وحاصل الحديث :"أن من رفع رأسه قبل الإمام أو وضعه كيف لا يخاف من أن يصير رأسه رأس حمار"، فوقع فيما وقع وهذا هو مسخ الصورة ومسخ المعنى أشد وأصعب منه فإن أعمى الصورة مثلاً يمكن أن يكون في الآخرة بصيراً ولكن من كان في هذه أعمى يعني بالقلب فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
فعلى السالك أن يجتهد حتى لا يرد وجهه الناطق إلى الله تعالى على الدنيا واتباع الهوى ولا يمسخ صفاته الإنسانية بالسبعية والشيطانية، قال الشيخ السعدي :
باتو ترسم نشود شاهد روحاني دوست
كالتماس توبجز عالم جسماني نيست
سعى كن تاز مقام حيوان در كذرى
كاهنست آينه ما دامكه نوراني نيست
خفتكانرا ه خبر زمزمه مرغ سحر
حيوانرا خبر از عالم انساني نيست