﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم﴾ خطاب للنبي عليه السلام على وجه التعجيب أي : ألم تنظر إلى اليهود الذين يطهرون نفوسهم من الذنوب وألسنتهم ولم يزكوها حقيقة بقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه وبقولهم : نحن كالأولاد الصغار فهل عليهم ذهب أي : انظر إليهم وتعجب من حالهم وادعائهم أنهم أزكياء عند الله مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم واللفظ عام يشتمل كل من زكى نفسه ووصفها بزيادة التقوى والطاعة والزلفى عند الله ففيه تحذير من إعجاب المرء بعمله ﴿بَلِ اللَّهُ﴾ يعني هم لا يزكونها في الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله ﴿يُزَكِّى مَن يَشَآءُ﴾ تزكيته ممن يستأهلها من المرتضين من عباده المؤمنين فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح وقد وصفهم بما هم متصفون به من القبائح ﴿وَلا يُظْلَمُونَ﴾ أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب ﴿فَتِيلا﴾ أي : أدنى ظلم وأصغره وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في القلة والحقارة والظلم في حق المعاقب الزيادة على حقه وفي حق المثاب النقصان منه ﴿انظُرْ كَيفَ﴾ أي : في أي حال أو على أي حال ﴿يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ في زعمهم أنهم أبناء الله وأزكياء عنده والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً للمبالغة في تقبيح حالهم ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام.
﴿إِثْمًا مُّبِينًا﴾ ظاهراً بيناً كونه إثماً والمعنى كفى بذلك وحده في كونهم أشد إثماً من كل كفار أثيم ولو لم يكن لهم من الذنوب إلا هذا الافتراء لكان إثماً عظيماً ونصب إثماً مبيناً على التمييز.
قال الإمام أبو منصور رحمه الله : قول الرجل أنا مؤمن ليس بتزكية النفس بل إخبار عن شيء أكرم به وإنما التزكية أن يرى نفسه تقياً صالحاً ويمدح به.
قال السري قدس سره : من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى.
فيجب على العبد المؤمن أن يمتنع عن مدح نفسه ألا يرى إلى قوله عليه السلام :"أنا سيد ولد آدم" كيف عقبه بقوله :"ولا فخر" أي : لست أقول هذا تفاخراً كما يقصده الناس بالثناء على أنفسهم لأن افتخاره عليه السلام كان بالله وتقربه من الله لا بكونه مقدماً على أولاد آدم كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يكون بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقديمه على بعض رعاياه :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧
اكر مردى ازمردىء خود مكوى
نه هر شهسواري بدر برد كوى
٢٢٠
كنهكار انديشناك از خدا
بسى بهتر از عابد خود نما
اكر مشك خالص ندارى مكوى
وكرهست خود فاش كردد ببوى
ونعم ما قيل :
جوز خالي درميان جوزها
مى نمايد خويشتن را از صدا
والإشارة في الآيتين أن الذين يزكون أنفسهم من أهل العلوم الظاهرة بالعلم ويباهون به العلماء ويمارون به السفهاء لا تزكي أنفسهم بمجرد تعلم العلم بل تزيد صفاتهم المذمومة مثل المباهاة والمماراة والمجادلة والمفاخرة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وطلب الاستيلاء والغلبة على الأقران والأمثال ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ﴾ التزكية ويتهيأ لها بتسليم النفس إلى أرباب التزكية وهم العلماء الراسخون والمشايخ المحققون كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجلعه أديماً فمن يسلم نفسه للتزكية إلى المزكي ويصبر على تصرفاته كالميت في يد الغسال ويصغ إلى إشاراته ولا يعترض على معاملاته ويقاس شدائد أعمال التزكية فقد أفلح بما تزكى والمزكي هو النبي عليه السلام في أيام حياته كما قال تعالى :﴿هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ (الجمعة : ٢) الآية وبعدهم العلماء الذين أخذوا التزكية ممن أخذوا منه قرناً بعد قرن من الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان إلى يومنا هذا ولعمري إنهم في هذا الزمان أعز من الكبريت الأحمر، قال الشيخ الحسيني :
در طريقت رهبر دانا كزين
زانكه ره دورست ورهزن در كمين
رهبري بايد بمعنى سر بلند
از شريعت وز طريقت بهره مند
أصل وفرع وجزء وكل آموخته
شمع از نور علم افروخته
ظاهرش از علم كسبي باخدا
باطنش ميراث دار مصطفا
هركه از دست عنايت بر كرفت
روز أول دامن رهبر كرفت
هركه در زندان خود رأيى فتاد
بند اورا سالها نتوان كشاد
اي سليم القلب دشوارست كار
تاننداري كه ندارست كار
فعلى السالك أن يتمسك بذيل المرشد ويتشبث به إلى الوقوف على علم التوحيد ثم الفناء عن نفسه لأن مجرد العرفان غير منج ما لم يحصل التحقيق بحقيقة الحال ولذا قال عليه السلام :"شر الناس من قامت عليه القيامة وهو حي" أي : وقف على علم التوحيد ونفسه لم تمت بالفناء حتى يحيى بالله فإنه حينئذٍ زنديق قائل بالإباحة في الأشياء عصمنا الله وإياكم من المعاصي والفحشاء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧


الصفحة التالية
Icon