ولا يسود الحسود والبخيل في جميع الزمان ألا ترى أن الله تعالى جعل بخل اليهود كالمانع من حصول الملك لهم فهما لا يجتمعان وذلك لأن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته والإنسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمراً مطلوباً مرغوباً فيه وجهات الحاجات محيطة بالناس فإذا صدر من إنسان إحسان إلى غيره صارت رغبة المحسن إليه في ذلك المال سبباً لصيرورته منقاداً مطيعاً له فلهذا قيل بالبر يستعبد الحر فأما إذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصاً من المعارض فلا يحصل الانقياد ألبتة، قال السعدي :
خورش ده بكنجشك وكبك وحمام
كه يك روزت افتنده يابى بدام
زر ازبهر خوردن بود اي سر
زبهر نهادن ه سنك وه زر
وقد شبه بعض الحكماء ابن آدم في حرصه على الجمع ووخامة عاقبته بدود القز الذي يكاد ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مخلص فيقتل نفسه.
ويصير القز لغيره فاللائق بشأن المؤمن القناعة بما رزقه الودود وترك الحرص والبذل من الموجود.
وقيل : لما عرج النبي عليه السلام اطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام :"ما بال هذا الرجل في هذه الحظيرة لا تمسه النار" فقال جبريل عليه السلام : هذا حاتم طي صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده فالجود صارف عن المرء عذاب الدنيا والعقبى وباعث لوصول الملك في الأولى والأخرى.
ثم إن الملك على ثلاثة أقسام : ملك على الظواهر فقط وهذا هو ملك الملوك، وملك على البواطن فقط فهذا هو ملك العلماء، وملك على الظواهر والبواطن معاً وهذا هو ملك الأنبياء عليهم السلام فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سبباً لانقياد الخلق لهم وامتثالهم لأوامرهم وكمال هذه الصفات كان حاصلاً لمحمد عليه السلام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢١
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآياتنا﴾ القرآن وسائر المعجزات ﴿سَوْفَ﴾ كلمة تذكر للتهديد والوعيد يقال : سوف أفعل وتذكر للوعد أيضاف فتفيد التأكيد ﴿نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ ندخلهم ناراً عظيمة هائلة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢١
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم﴾ أي احترقت ﴿بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ غير يذكر ويراد به الضد تقول الليل غير النهار وأيضاً يقال للمثل المتبدل تقول للماء الحار إذا برد هذا غيره وهو المراد هنا أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورة وإن كان عينه مادة.
والحاصل أنه يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك صغت من خاتمي خاتماً غيره فالخاتم الثاني هو الأول
٢٢٣
وإنما الصياغة اختلفت.
فإن قلت الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله تعالى مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان ذلك تعذيباً لمن لم يعص وهو غير جائز.
قلت : العذاب للجلدة الحساسة وهي التي عصت لا للجلد مطلقاً والذات واحدة فالعذاب لم يصل إلا إلى العاصي ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه.
قال الحسن : تأكلهم النار في كل يوم سبعين مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا.
ـ وروي ـ مرفوعاً أن جلد الكافر أربعون ذراعاً وضرسه مثل أحد وشفته العليا تضرب سرته وبين لحمه وجلده ديدان كحمر الوحش تركض بين جلده ولحمه وحيات كأعناق البخت وعقارب كالبغال وهذا ليس بزيادة تخلق وتعذب من غير معصية لكن إذا زيد ذلك ثقلة على العبد ويكون نفس الثقل عقوبة عليه كسائر عقوبات جهنم من السلاسل والأغلال والعقارب والحيات.
فإن قلت : إنما يقال فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئاً قليلاً منه والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العباد؟ قلت : المقصود من ذكر الذوق الإخبار بأن إحساسهم بالعذاب في كل مرة كإحساس الذائق بالمذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق ودوام الملابسة ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على بقاء إدراك العذاب وذوقه بحاله مع الاحتراق أو مع إبقاء أبدانهم على حالهم مصونة عن الاحتراق أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا﴾ لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ﴿حَكِيمًا﴾ يعاقب من يعاقب على حكمته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٣


الصفحة التالية
Icon