اعلم أن هذا العذاب والتبديل الذي في الآخرة كان حاصلاً له في الدنيا ولكن لم يكن يذوقه كالنائم يجرح نفسه بحديدة في يده فتكون الجراحة حاصلة له في الدنيا ولكن لم يذق ألمها حتى ينتبه فالناس نيام فإذا ماتوا انتهبوا.
فعلى العبد أن يعمل على وفق الشرع وخلاف النفس والهوى حتى يجعل الله تعالى باكسير الشرع نحاس الصفات الظلمانية النفسانية قضية الصفات النورانية الروحانية فإذا تخلص في الدنيا من شوب المعصية بإصلاح النفس والجريان على وفق الشرع لم يحتج في الآخرة إلى التهذيب والتنقيح بالنار.
ـ روي ـ أن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلِّها الذين ماتوا على كبائرهم غير تائبين ولا نادمين منهم من دخل النار في الباب الأول في جهنم حتى لا تزرق أعينهم ولا تسود وجوههم ولا يقرنون مع الشياطين ولا يغلون بالسلاسل ولا يجرعون الحميم ولا يلبسون القطران في النار حرم الله تعالى أجسادهم ووجوههم على النار من أجل السجود فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى عنقه قدر ذنوبهم وأعمالهم ثم إن منهم من يمكث فيها شهراً ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثاً كقدر الدنيا منذ خلقت إلى يوم تفنى.
وكان ابن السماك يقول فيما يعاتب نفسه يا نفس تقولين قول الزاهدين وتعملين عمل المنافقين وفي الجنة تطمعين أن تدخلين هيهات هيهات إن للجنة قوماً آخرين ولها أعمال غير ما تعملين ويحك أخذت بزي كسرى وقيصر والفراعنة وتريدين أن ترافقي
٢٢٤
رسول الله صلى الله عليه وسلّم في دار الجلال فاعرض نفسك على كتاب الله فيما وصف أولياءه وأعداءه فانظر من أي الصنفين أنت؟
ترادر زكار بدان شرم دار
كه در روي نيكان شوي شرمسار
نريزد خدا آب روي كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسي
وذُكِر عن يزيد بن مرثد : أنه كان لا تنقطع دموع عينيه ساعة ولا يزال باكياً فسئل عن ذلك فقال : لو أن الله تعالى أوعدني بأني لو أذنبت لحبسني في الحمام أبداً لكان حقيقاً عليّ أن لا تنقطع دموعي فكيف وقد أوعدني أن يحبسني في نار أو قد عليها ثلاثة آلاف سنة أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء كالليل المظلم، قال أبو هريرة رضي الله عنه لا تغبطن فاجراً بنعمته فإن وراءه طالباً حثيثاً وهي جهنم كلما خبث زدناهم سعيراً، قال الحافظ قدس سره :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٣
قلندران حقيقت به نيم جو نخرند
قباي اطلس آنكس كه ازهنر عاريست
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من كانت همته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت همته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له"، قال السعدي قدس سره :
آنكس ازدزد برسد كه متاعي دارد
عارفان جمع نكردند وريشاني نيست
هر كرا خيمه بصحراي قناعت زده اند
كرجهان لرزه بكيرد غم ويراني نيست
﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ بالله وبمحمد والقرآن وسائر الآيات والمعجزات ﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ التي أمر الله بها ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ أي : مقيمين فيها لا يخرجون منها ولا يموتون ﴿لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ أي مما نساء الدنيا عليه من الأحوال المستقذرة البدنية والادناس الطبيعية كالحيض والنفاس والحقد والحسد وغير ذلك ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا﴾ فينانا لا جوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس أي لا تزيله وسجسجا وهو من الزمان ما لا حر فيه ولا برد ومن المكان ما لا سهولة فيه ولا حزونة.
والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال : ليل أليل ويوم أيوم وما أشبه ذلك.
فإن قلت : إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟ وأيضاً يرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس إليها يكون هواؤها عفناً فاسداً مؤذياً فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ قلت : إن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه السلام :"السلطان ظل الله في الأرض" فإذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظل الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة.
قال الإمام في تفسيره : هذا ما يميل إليه خاطري قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطعها اقرأوا إن شئتم وظل ممدود وفي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرأوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين فموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم
٢٢٥


الصفحة التالية
Icon