وأما القسم الثاني : وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيه رد الودائع ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن ويدخل فيه أن لا يفشى على الناس عيوبهم ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعد العلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها وفي أن لا تلحق بالزوج ولداً تولد من غيره وفي إخبارها عن اقضاء عدتها.
وأما القسم الثالث وهو أمانة الإنسان مع نفسه وهو أن لا يفعل إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" قال عليه السلام :"لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" فعلى العبد المؤمن أن يؤدي الأمانات كلها ما استطاع ويتعظ بمواعظ الحق في كل زمان فإن الوعظ نافع جداً.
امروز قدر ند عزيزان شناختم
يا رب روان ناصح ما ازتوشاد باد
قاله الحافظ، وقال في موضع :
ند حكيم محض صوابست ومحض خير
فروخنده بخت آنكه بسمع رضا شنيد
٢٢٧
ثم إن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانات إلى أهلها.
قال الحسن : إن الله أخذ على الحكام ثلاثاً : أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، وأن لا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، قال صلى الله عليه وسلّم "ينادي منادٍ يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلماً أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار"، قال السعدي قدس سره :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٦
جهان نماند وآثار معدلت ماند
بخير كوش وصلاح وبعدل كوش وكرم
كه ملك ودولت ضحاك مردمان آزار
نماند وتا بقيامت برو بماند رقم
قال عليه السلام :"من دل سلطاناً على الجور كان مع هامان وكان هو والسلطان من أشد أهل النار عذاباً" فمقتضى الإيمان هو العدل والسببية للصلاح ونظام العالم وإجراء الشرع والاحتراز عن الرشوة فإن من أخذها لا يسامح في الشرع.
وغضب الاسكندر يوماً على بعض شعرائه فأقضاه وفرق ماله في أصحابه فقيل له في ذلك فقال : أما أقضائي له فلجرمه وأما تفريقي ماله في أصحابه فلئلا يشفعوا فيه فانظر كيف كان أخذ المال سبباً لعدم الشفاعة لأنهم لو استشفعوا في حقه فشفعوا لزم الاسترداد فلما طمعوا تركوا الشفاعة :
ازتوكر انصاف آيد در وجود
به كه عمري در ركوع ودر سجود
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ} وهم أمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على الله والرسول في وجوب الطاعة فإنهم اللصوص المتغلبة لأخذهم أموال الناس بالقهر والغلبة وإنما أفرد بالذكر طاعة الله ثم جمع طاعة الرسول مع طاعة أولي الأمر حيث قال تعالى :﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ﴾ ولم يقل وأطيعوا أولي الأمر منكم تعليماً للأدب وهو أن لا يجمعوا في الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره وأما إذا آل الأمر إلى المخلوقين فيجوز ﴿فَإِن تَنَـازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ﴾ أصل النزع الجذب لأن المتنازعين يجذب كل واحد منهما إلى غير جهة صاحبه أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ﴾ فارجعوا فيه إلى كتاب الله ﴿وَالرَّسُولِ﴾ أي إلى سننه صلى الله عليه وسلّم وتعلق أصحاب الظواهر بظاهر هذه الآية في أن الاجتهاد والقياس لا يجوز لأن الله تعالى أمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة ولا يوجد في كل حادثة نص ظاهر فعلم أنه أمر بالنظر في مودوعاته والعمل على مدلولاته ومقتضياته ولكن الآية في الحقيقة دليل على حجة القياس كيف لا ورد المختلف فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو المعنى بالقياس ويؤيده الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة : ثابت بالكتاب وثابت بالسنة وثابت بالرد إليهما بالقياس
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٦
﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ فإن الإيمان بهما يوجب ذلك أما الإيمان بالله فظاهر وأما الإيمان باليوم الآخر فلما فيه من العقاب على المخالفة ﴿ذَالِكَ﴾ أي الرد إلى الكتاب والسنة ﴿خَيْرٍ﴾ لكم
٢٢٨


الصفحة التالية
Icon