﴿وَمَا لَكُمْ﴾ أي : أي شيء حصل لكم من العلل أيها المؤمنون حال كونهم ﴿لا تُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي تاركين القتال يعني لا عذر لكم في ترك المقاتلة وهذا استفهام بمعنى التوبيخ ولا يقال ذلك إلا عند سبق التفريط ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ عطف على السبيل بحذف المضاف لا على اسم الله وإن كان أقرب لأن خلاص المستضعفين سبيل الله لا سبيلهم والمعنى في سبيل الله وفي خلاص الذين استضعفهم الكفار بالتعذيب والأسر وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد وإنما خصهم بالذكر مع أن سبيل الله عام في كل خير لأن تخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه ﴿مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ بيان للمستضعفين والولدان الصبيان جمع ولد وإنما ذكرهم معهم تسجيلاً بإفراط ظلمهم حيث بلغ أذاهم الوالدان غير المكلفين إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء.
ودلت الآية على أن استنقاذ الأساري من المسلمين من أيدي الكفار واجب بما قدروا عليه من القتال وإعطاء المال ﴿الَّذِينَ﴾ صفة للمستضعفين ﴿يَقُولُونَ﴾ يعني لا حيلة لهؤلاء المستضعفين ولا ملجأ إلا الله فيقولون داعين ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ مكة ﴿الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ بالشرك الذي هو ظلم عظيم وبأذية المسلمين
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٧
﴿وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا﴾ أي ول علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا يحفظ علينا ديننا وشرعنا ﴿وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ ينصرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة قبل الفتح وجعل لمن بقي منهم إلى الفتح خير ولي وأعز ناصر ففتح مكة على يدي نبيه صلى الله عليه وسلّم فتولاهم أي تولية ونصرهم أي نصرة ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فجعل يضعف قدر الضعيف للحق ويعز العزيز بالحق فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا حتى صاروا أعز أهلها ﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله الحق الموصل لهم إلى الله عز وجل في إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّـاغُوتِ﴾ أي فيما يوصلهم إلى الشيطان فلا ناصر لهم سواه ﴿فَقَـاتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَـانِ﴾ كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فقاتلوا يا أولياء الله أولياء الشيطان ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـانِ﴾ الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال ﴿كَانَ ضَعِيفًا﴾ أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد الله بالكافرين ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه فإن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه وهذا كما يقال للحق دولة وللباطل جولة قالوا : إدخال كان في أمثال هذه المواقع لتأكيد بيان أنه منذ كان كان كذلك
٢٣٧
فالمعنى أن كيد الشيطان منذ كان كان موصوفاً بالضعف.
قال الإمام في تفسيره :﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أوليائه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرضوا ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا طللهم، قيل : النار حفت بالشهوات وأن في كل نفس شيطاناً يوسوس إليها وملكاً يلهمها الخير فلا يزال الشيطان يزين ويخدع ولا يزال الملك يمنعها ويلهمها الخير فأيهما كانت النفس معه كان هو الغالب.
قيل : إن كيد الشيطان والنفس بمثابة الكلب إن قاومته مزق الاهاب وقطع الثياب وإن رجعت إلى ربه صرفه عنك برفق فالله تعالى جعل الشيطان عدواً للعباد ليوحشهم به إليه وحرك عليهم النفس ليدوم إقبالهم عليه فكلما تسلطا عليهم رجعوا إليه بالافتقار وقاموا بين يديه على نعت اللجأ والاضطرار.
قال أحمد بن سهل أعداؤك أربعة : الدنيا وسلاحها لقاء الخلق وسجنها العزلة، والشيطان وسلاحه الشبع وسجنه الجوع، والنفس وسلاحها النوم وسجنها السهر، والهوى وسلاحه الكلام وسجنه الصمت.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٧
واعلم أن كيد الشيطان ضعيف في الحقيقة فإن الله ناصر لأوليائه كل حين ويظهر ذلك الإمداد في نفوسهم بسبب تزكيتهم النفس وتخلية القلب عن الشواغل الدنيوية واملاء أسرارهم بنور التوحيد فإن الشيطان ظلماني يهرب من النوراني لا محالة.