ـ روي ـ أن ناساً أتوا النبي صلى الله عليه وسلّم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة وشكوا إليه ما يلقون من أذى المشركين قالوا : كنا في عز في حالة الجاهلية والآن صرنا أذلة فلو أذنت لنا قتلنا هؤلاء المشركين على فرشهم فقال صلى الله عليه وسلّم "كفوا أيديهم" أي أمسكوا "عن القتال" ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ﴾ واشتغلوا بما أمرتم به فإني لم أومر بقتالهم وكانوا في مدة إقامتهم بمكة مستمرين على تلك الحالة فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة وأمروا بالقتال في وقت بدر كرهه بعضهم وشق ذلك عليه لكن لا شكا في الدين ولا رغبة عنه بل نفوراً من الأخطار بالأرواح وخوفاً من الموت بموجب الجبلة البشرية لأن حب الحياة والنفرة من القتل من لوازم الطباع وذلك قوله تعالى :﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ أي : فرض عليهم الجهاد ﴿إِذَا فَرِيقٌ﴾ إذا للمفاجأة وفريق مبتدأ ﴿مِّنْهُمْ﴾ صفة ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾ خبره والجملة جواب لما أي فاجأ فريق منهم أن يخشو الكفار أن يقتلوهم ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾ مصدر مضاف إلى المفعول محله النصب على أنه حال من فاعل يخشون أي يخشونهم متشبهين بأهل خشية الله تعالى ﴿أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ عطف عليه بمعنى أو أشد خشية من أهل خشية الله وكلمة أو للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله أو خشية بعضهم أشد منها ﴿وَقَالُوا﴾ عطف على جواب لما أي فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس وقالوا :﴿رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ﴾ في هذا الوقت لا على وجه الاعتراض على حكمه تعالى والإنكار لإيجابه بل على طريقة تمني التخفيف ﴿لَوْلا أَخَّرْتَنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ أي هلا أمهلتنا وتركتنا إلى الموت حتى نموت بآجالنا على الفراش وهذا استزادة في مدة الكف واستمهال إلى وقت آخر حذراً من الموت وحباً للحياة ﴿قُلِ﴾ أي : تزهيداً لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيباً فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي ﴿مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ أي : ما يتمتع وينتفع به في الدنيا سريع النقض وشيك الانصرام وإن
٢٣٩
أخرتم إلى ذلك الأجل ولو استشهدتم في القتال صرتم أحياء فتتصل الحياة الفانية بالحياة الباقية ﴿وَالاخِرَةُ﴾ أي ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالقتال.
﴿خَيْرٍ﴾ لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات وإنما قيل :﴿لِّمَنِ اتَّقَى﴾ حثاً لهم على اتقاء العصيان والإخلاص بمواجب التكليف ﴿وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ عطف على مقدر أي تجزون ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم التي من جملتها مسعاتكم في شأن القتال فلا ترغبوا عنه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٩
اعلم أن الآخرة خير من الدنيا لأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة ونعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره ونعم الآخرة صافية عن الكدورات ونعم الدنيا مشكوكة فإن أعظم الناس تنعماً لا يعرف أنه كيف تكون عاقبته في اليوم الثاني ونعم لآخرة يقينية.
فعلى العاقل أن يختار ما هو خير من كل وجه وهو الآخرة على ما هو شر من كل جهة وهو الدنيا، قال السعدي في بعض قصائده :
عمارت باسراي ديكر انداز
كه دنيارا أساسي نيست محكم
فريدون را سرآمد ادشاهي
سليما نرا برفت ازدست خاتم
وفاداري مجوى ازدهر خو نخوار
محالست انكبين دركام ارقم
مثال عمر سربر كرده شمعيست
كه كوته باز مى باشد دمادم
ويا برفي كدازان بر سركوه
كزو هو لحظه جزئي ميشودكم
ـ روي ـ أن رجلاً اشترى داراً فقال لعلي ـ رضي الله عنه ـ : اكتب القبالة فكتب (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد اشترى مغرور من مغرور داراً دخل فيها في سكة الغافلين لا بقاء لصاحبها فيها الحد الأول ينتهي إلى الموت والثاني إلى القبر والثالث إلى الحشر والرابع إلى الجنة أو إلى النار والسلام) فقرأ على الرجل فرد الدار وتصدق بالدنانير كلها وتزهد في الدنيا فهذا هو حال العارفين حقيقة الحال.
قال القشيري رحمه الله مكنك من الدنيا ثم قللها فلم يعدها لك شيئاً ثم لو تصدقت منها بشق تمرة استكثر منك وهذا غاية الكرم وشرط المحبة وهو استقلال الكثير من نفسه واستكثار القليل من حبيبه وإذا كان قيمة الدنيا قليلة فاخس من الخسيس من رضي بالخسيس بدلاً من النفس وقال : إن الله تعالى اختطف المؤمن من الكون بالتدريج فقال أولاً :﴿قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ فاختطفهم من الدنيا بالعقبى ثم استلبهم عن الكونين بقوله :﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ فلا بد للسالك أن يترقي إلى أعلى المنازل ويسعى من غير فتور وكلال، قال مولانا جلال الدين قدس سره :
أي برادر بي نهايت دركهيست
هركجا كه مى رسى بالله مايست
وثمرة المجاهدة لا تضيع البتة بل تجزي كل نفس بما عملت.