ومن الشفاعة الحسنة الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى الله تعالى وعن النبي عليه السلام "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك" وهذا بيان لمقدار النصيب الموعود والدعوة على المسلم بضد ذلك وإنما يستجاب الدعاء بظهر الغيب لعبده عن شائبة الطمع والرياء بخلاف دعاء الحاضر للحاضر لأنه قلما يسلم من ذلك فالغائب لا يدعو للغائب إلاخالصاً فيكون مقبولاً والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في الصلاة وغيرها دعاء من العبد المصلي لمحمد صلى الله عليه وسلّم عن ظهر الغيب فشرع ذلك رسول الله وأمر الله به في قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّا يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب : ٥٦) ليعود هذا الخير من الملك على المصلي ولهذا جوز الحنفية قراءة الفاتحة لروحه المطهر عليه السلام ومنعها الشافعية لأن الدعاء بالترحم يوهم التقصير ولذا لا يقال عند ذكر الأنبياء رحمة الله عليهم بل عليهم السلام والجواب أن نفع القراءة يعود على القارىء فأي ضرر في ذلك ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا﴾ أي : مقتدراً مجازياً بالحسنة والسيئة من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيداً حفيظاً.
قال الإمام الغزالي في شرح الأسماء الحسنى : معنى المقيت خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة وإلى القلوب وهي المعرفة فيكون بمعنى الرازق إلا أنه أخص منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت والقوت ما يكتفي به في قوام البدن أو يكون معناه المستولي على الشيء القادر عليه والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم وعليه يدل قوله تعالى :﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا﴾ أي : مطلعاً قادراً فيكون معناه راجعاً إلى العلم والقدرة فوصفه بالمقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده لأنه دال على اجتماع المعنيين وبذلك يخرج هذا الاسم من الترادف.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٩
والإشارة في الآية ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً حَسَنَةً﴾ لإيصال نوع من الخيرات إلى الغير ﴿يَكُن لَّه نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾ فإنها من
٢٥٠
خصوصيتها أن يكون له نصيب منها أي له نصيب من هذه الحسنة فمن تلك الخصوصية قد يشفع شفاعة حسنة ﴿وَمَن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ﴾ أي : في جبلته ﴿كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ يعني : من تلك السيئة التي هي إيصال نوع من الشر فيها قد يشفع شفاعة سيئة كما قال تعالى :﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّه وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا﴾ (الأعراف : ٥٨) ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ في الأزل ﴿عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا﴾ شهيداً في إيجاد المحسن والمسيء مقتدراً عليماً حفيظاً يعطيهما استعداد شفاعة حسنة وسيئة لا يقدران اليوم على تبديل استعدادهما لقابلية الخير والشر فافهم جداً، قال الحافظ قدس سره :
نقش مستوري ومستي نه بدست من وتست
آنه استاد ازل كفت بكن آن كردم
وقال السعدي قدس سره :
كرت صورت حال بد يانكوست
نكاريده دست تقدير اوست
﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ﴾ التحية مصدر على حيى كالتسمية من سمي أصلها تحيية كتفعلة وأصل الأصل تحيي، بثلاث ياآت فحذفت الأخيرة وعوض عنها تاء التأنيث وأدغمت الأولى في الثانية بعد نقل حركتها إلى الحاء وأصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ثم استعملت في كل دعاء لأن الدعاء بالخير لا يخلو شيء منه عن الدعاء بنفس الحياة أو بما هو السبب المؤدي إلى قوتها وكمالها أو بما هو الغاية المطلوبة منها وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضاً يقول : حياك الله أي جعل الله لك حياة وأطال حياتك ويقول بعضهم : عش ألف سنة.
ثم استعملها الشرع في السلام وهي تحية الإسلام قال تعالى :﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾ (النور : ٦١) قيل : تحية النصارى وضع اليد على الفم وتحية اليهود الإشارة بالأصابع وتحية المجوس الانحناء.
وفي السلام مزية على تحية العرب وهي حياك الله لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية فإنه إذا قال الإنسان لغيره السلام عليك فقد دعا في حقه بالسلامة منها ويتضمن الوعد بسلامة ذلك الغير وأمانة منه كأنه قال : أنت سليم مني فاجعلني سليماً منك والسلامة مستلزمة لطول الحياة وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك ولأن السلام من أسمائه تعالى فالبداية بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته ومعنى الآية إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين.
﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ أي : بتحية أحسن منها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله إن اقتصر المسلم على الأول وبان تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهو أن يقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته منتهى الأمر في السلام لكونه مستجمعاً لجميع فنون المطالب التي هي السلامة من المضار ونيل المنافع ودوامها ونمائها ولهذا اقتصر على هذا القدر في التشهد.