﴿إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـاقٌ﴾ استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم أي إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الأسلميون فإنه عليه السلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ﴾ عطف على الصلة أي والذين جاؤكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ حال بإضمار قد أي : وقد ضاقت صدورهم فإن الحصر بفتحتين الضيق والانقباض ﴿أَن يُقَـاتِلُوكُمْ﴾ أي : ضاقت عن أن يقاتلوكم مع قومهم.
﴿أَوْ يُقَـاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ معكم والمراد بالجائين الذين حصرت صدورهم عن المقاتلة بنوا مدلج وهم كانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشاً أن لا يقاتلوهم فضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم ولأنه تعالى قذف الرعب في قلوبهم وضاقت صدورهم عن قتال قومهم لكونهم على دينهم نهى الله تعالى عن قتل هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد للمؤمنين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧
أي : بني مدلج ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم.
قال في "الكشاف" فإن قلت : كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين قلت : ما كانت مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين فذلك معنى التسليط ﴿فَلَقَـاتَلُوكُمْ﴾ عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم واللام جواب لو على التكرير.
﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ﴾ أي : فإن لم يتعرضوا لكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى.
﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي : الانقياد والاستسلام ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا﴾ أي : طريقاً بالأسر أو بالقتل فإن مكافتهم عن قتالكم وإن لم يقاتلوا قومهم أيضاً والقاءهم إليكم السلم وإن لم يعاهدوكم كافية في استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم.
قال بعضهم الآية منسوخة بآية القتال والسيف وهي قوله تعالى :﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة : ٥) وقال آخرون : إنها غير منسوخة وقال : إذا حملنا الآية على المعاهدين فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة.
قال الحدادي في تفسيره : لا يجوز مهادنة الكفار وترك أحد منهم على الكفر من غير جزية إذا كان بالمسلمين قوة على القتال وأما إذا عجزوا عن مقاومتهم وخافوا على أنفسهم وذراريهم جاز لهم مهادنة العدو من غير جزية يؤدونها إليهم لأن حظر الموادعة كان بسبب القوة فإذا زال السبب زال الحظر ﴿سَتَجِدُونَ﴾ قوماً ﴿ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ﴾ أي يظهرون لكم الصلح
٢٥٧
يريدون أن يأمنوا منكم بكلمة التوحيد يظهرونها لكم ﴿وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ أي من قومهم بالكفر في السر وهم قوم من أسد وغطفان إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ﴾ دعوا من جهة قومهم إلى قتال المسلمين ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾ عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا فيها شراً من كل عدو شرير ﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ بالكف عن التعرض لكم بوجه ما ﴿وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أي : لم يلقوا إليكم الصلح والعهد بل نبذوه إليكم ﴿وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ أي : لم يكفوها عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي : تمكنتم منهم ﴿وَأُولَئكُمْ﴾ الموصوفون بما عد من الصفات القبيحة ﴿جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا مُّبِينًا﴾ أي : حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر وغدرهم وإضرارهم بأهل الإسلام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧