والإشارة في الآية الأولى أن الاختلاف واقع بين الأمة في أن خذلان المنافقين هل هو أمر من عند أنفسهم أو أمر من عند الله وقضائه وقدره فبين الله بقوله :﴿فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَـافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ أي : صرتم فرقتين : فرقة يقولون الخذلان في النفاق منهم، وفرقة يقولون من الله وقضائه وقدره.
﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا﴾ يعني : أن الله أركسهم بقدره وردهم بقضائه إلى الخذلان بالنفاق ولكن بواسطة كسبهم ما ينبت النفاق في قلوبهم ليهلك من هلك عن بينة ولهذا مثال وهو أن القدر كتقدير النقاش الصورة في ذهنه والقضاء كرسمه تلك الصورة لتلميذه بالأسرب ووضع التلميذ الاصباغ عليها متبعاً لرسم الأستاذ كالكسب والاختيار فالتلميذ في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ وكذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء والقدر ولكنه متردد بينهما ومما يؤكد هذا المثال والتأويل قوله تعالى :﴿قَـاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ (التوبة : ١٤) وقال :﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ﴾ (النحل : ١٢٧) وذلك مثل ما ينسب الفعل إلى السبب الأقرب تارة وإلى السبب الأبعد أخرى فالأقرب كقولهم قطع السيف يد فلان والأبعد كقولهم قطع الأمير يد فلان ونظيره قوله تعالى :﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾ (السجدة : ١١) وفي موضع ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ (الزمر : ٤٢) قال ابن نباتة :
إذا ما الاله قضى أمره
فانت لما قد قضاه السبب فعلى هذه القضية من زعم أن لا عمل للعبد أصلاً فقد عاند وجحد ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك فاختيار العبد بين الجبر والقدر لأن أول الفعل وآخره إلى الله فالعبد بين طرفي الاضطرار مضطر إلى الختيار فافهم جداً كذا في "التأويلات النجمية".
واعلم أن الجبرية ذهبت إلى أنه لا فعل للعبد أصلاً ولا اختيار وحركته بمنزلة حركة الجمادات والقدرية إلى أن العبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى ومذهب أهل السنة والجماعة الجبر المتوسط وهو إثبات الكسب للعبد وإثبات الخلقتعالى وأما مشاهدة الآثار في الأفعال من الله تعالى كما عليه أهل المكاشفة فذلك ليس من قبيل الجبر.
قال في "المثنوي" :
٢٥٨
كر برانيم تير آن نى زماست
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧
ما كمان وتير اندازش خداست
اين نه جبراين معنى جباريست
ذكر جباري براي زاريست
زاري ماشد دليل اضطرار
خجلت ماشد دليل اختيار
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ أي : وما صح له ولا لاق بحاله ﴿أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ بغير حق فإن الإيمان زاجر عن ذلك ﴿إِلا خَطَـاًا﴾ أي : ليس من شأنه ذلك في حال من الأحوال إلا حال الخطأ فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية فالمؤمن مجبول على أن يكون محلاً لأن يعرض له الخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل أو إلى الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالباً أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه.
ـ روي ـ أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا أبي جهل لأمه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفاً من أهله وذلك قبل هجرة النبي عليه السلام فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد بن أبي أنيس فأتياه وهو في أطم أي جبل ففتل منه أبو جهل في الذروة والغارب وقال : أليس محمد يحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ أمك ولك علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك حتى نزل وذهب معهما فلما بعدا من المدينة شدا يديه إلى خلف بحبل وجلده كل واحد منهما مائة جلدة فقال للحارث هذا أخي فمن أنت؟ يا حارثعلي إن وجدتك خالياً أن أقتلك وقدما به على أمه فحلفت لا يحل وثاقه حتى يرجع عن دينه ففعل بلسانه مطمئناً قلبه على الإيمان ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحارث وهاجر فلقيه عياش لظهر قبا فانحنى عليه فقتله ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَاًا﴾ صغيراً كان أو كبيراً ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أي : فعليه إعتاق نسمة عبر عن النسمة بالرقبة كما يعبر عنها بالرأس ﴿مُّؤْمِنَةٍ﴾ محكوم بإسلامها سواء تحققت فيها فروع الإيمان وثمراته بأن صلت وصامت أو لم يتحقق فدخل فيها الصغير والكبير والذكر والأنثى وهذا التحرير هو الكفارة وهي حق الله تعالى الواجب على من قتل مؤمناً مواظباً على عباده الله تعالى والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله تعالى فإذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٩