﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي : مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث بعد قضاء الدين منها وتنفيذ الوصية وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال لا المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال صلى الله عليه وسلّم "أنا وارث من لا وارث له" ﴿إِلا أَن يَصَّدَّقُوا﴾ أي : يتصدق أهله عليه سمى العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله وفي الحديث "كل معروف صدقة" وهو متعلق بعليه المقدر عند قوله :﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ﴾ أو بمسلمة أي : تجب الدية ويسلمها إلى أهله إلا وقت تصدقهم عليه لأن الدية حق الورثة فيملكون إسقاطها بخلاف التحرير فإنه حق الله تعالى فلا يسقط بعفو الأولياء وإسقاطهم.
واعلم أن الدية مصدر من ودي القاتل المقتول إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس وذلك المال يسمى الدية تسمية بالمصدر والتاء في آخرها عوض عن الواو المحذوفة في الأول كما في العدة وهي أي الدية في الخطأ من الذهب ألف دينار ومن الفضة عشرة آلاف درهم وهي على العاقلة في الخطأ
٢٥٩
وهم الأخوة وبنوا الأخوة والأعمام وبنو الأعمام يسلمون إلى أولياء المقتول ويكون القاتل كواحد من العاقلة يعني : يعطي مقدار ما أعطاه واحد منهم لأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره وسميت الدية عقلاً لأنها تعقل الدماء أي تمسكه من أن يسفك الدم لأن الإنسان يلاحظ وجود الدية بالقتل فيجتنب عن سفك الدم فإن لم تكن له عاقلة كانت الدية في بيت المال في ثلاث سنين فإن لم يكن ففي ماله ﴿فَإِن كَانَ﴾ أي : المقتول ﴿مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ﴾ كفار محاربين ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم بالهجرة إلى دار الإسلام أو بأن أسلم بعدما فارقهم لمهم من المهمات ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ أي : فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله لكونه كفاراً ولأنهم محاربون ﴿وَإِن كَانَ﴾ أي المقتول المؤمن ﴿مِن قَوْمٍ﴾ كفرة ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـاقٌ﴾ أي : عهد موقت أو مؤيد ﴿فَدِيَةٌ﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٩
أي فعلى قاتله دية ﴿مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ من أهل الإسلام إن وجدوا ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ كما هو حكم المسلمين ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ أي : رقبة لتحريرها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها وهو ما يصلح أن يكون ثمناً للرقبة فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وسائر حوائجه الضرورية من المسكن وغيره ﴿فَصِيَامُ﴾ أي : فعليه صيام ﴿شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ وإيجاب التتابع يدل على أن المكفر بالصوم لو أفطر يوماً في خلال شهرين أو نوى صوماً آخر فعليه الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس أو نحوهما مما لا يمكن الاحتراز عنه فإنه لا يقطع التتابع والإطعام غير مشروع في هذه الكفارة بدليل الفاء الدالة على أن المذكور كل الواجب وإثبات البدل بالرأي لا يجوز فلا بد من النص ﴿تَوْبَةً﴾ كائنة ﴿مِّنَ اللَّهِ﴾ ونصبه على المفعول له أي : شرع لكم ذلك توبة أي : قبولاً لها من تاب الله عليه إذا قبل توبته.
فإن قيل : قتل الخطأ لا يكون معصية فما معنى التوبة.
قلت : إن فيه نوعاً من التقصير لأن الظاهر أنه لو بالغ في احتياط لما صدر عنه ذلك.
فقوله توبة من الله تنبيه على أنه كان مقصراً في ترك الاحتياط ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بحاله أي : بأنه لم يقصد القتل ولم يتعمد فيه﴿حَكِيمًا﴾ فيما أمر في شأنه.
والإشارة في قوله تعالى :﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أن تربية النفس وتزكيتها ببذل المال وترك الدنيا مقدم على تربيتها بالجوع والعطش وسائر المجاهدات فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة وهي عقبة لا يقتحمها إلا الفحول من الرجال كقوله تعالى :﴿فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ (البلد : ١١ ـ ١٢) الآية.
وأن أول قدم السالك أن يخرج من الدنيا وما فيها.
وثانيه أن يخرج من النفس وصفاتها كما قال "دع نفسك وتعال" والإمساك عن المشارب كلها من الدنيا والآخرة على الدوام إنما هو بجذبة من الله تعالى وإعطائه القابلية لذلك، كما قيل :
داد حق را قابليت شرط نيست
بلكه شرط قابليت داد حق
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٩
ـ حكي ـ أن أولاد هارون الرشيد كانوا زهاداً لا يرغبون في الدنيا والسلطنة فلما ولد له ولد قيل له : ادخله في بيت من زجاج يعيش فيه مع التنعم والترنم والأغاني حتى يليق للسلطنة ففعل فلما كبر كان يوماً يأكل اللحم فوقع عظم من يده فانكسر الزجاج فرأى السماء والعرض فسأل
٢٦٠