فلا يكفر بذلك ولا يخرج من الإيمان فإن أقيد ممن قتله كذلك كان كفارة له وإن كان تائباً من ذلك ولم يكن مقاداً كانت التوبة أيضاً كفارة له لأن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت توبة الكافر فتوبة هذا القاتل أولى بالقبول وإن مات بلا توبة ولا قود فأمره إلى الله تعالى إن شاء غفر له وأرضى خصمه وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعده بإيمانه لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد فالمراد بالخلود في حقه المكث الطويل لا الدوام مع أن هذا إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيف لا وقد قال الله عز وجل ﴿وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ (الشورى : ٤٠) ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة مثلها لعارضه قوله تعالى :﴿وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ﴾ (الشورى : ٣٠) وقد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً فهذا التشديد والتغليظ الذي هو سنة الله تعالى لا يتعلق بالقاتل التائب ولا بمن قتل عمداً بحق كما في القصاص بل يتعلق بمن لم يتب وبمن قتل ظلماً وعدواناً وفي الحديث :"لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم" وفيه "لو أن رجلاً قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لاشترك في دمه" وفيه "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى" وفيه "إن هذا الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه" وقد روي أن داود عليه السلام أراد بنيان بيت المقدس فبناه مراراً فكلما فرغ منه تهدم فشكا إلى الله تعالى فأوحى الله إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء فقال داود : يا رب ألم يك ذلك القتل في سبيلك قال : بلى ولكنهم أليسوا من عبادي فقال : يا رب فاجعل بنيانه على يدي من؟ فأوحى الله إليه أن أومر ابنك سليمان يبنيه والغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية وأن إقامتها أولى من هدمها ألا ترى إلى أعداء الدين أنه قد فرض الله في حقهم الجزية والصلح إبقاء عليهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :"أتدرون من المفلس" قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال :"إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" وفي الحديث :"أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة وأول ما يقضي بين الناس في الدماء" ثم يحاسب العبد ويقضي عليه في حق زكاته وغيرها هل منعها أو أداها" إلى غير ذلك من الأحوال الجزئية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٩
ثم اعلم أن المقتول إذا اقتص منه الولي فذلك جزاؤه في الدنيا وفيما بين القاتل والمقتول الأحكام باقية في الآخرة لأن الولي وإن قتله فإنما أخذ حق نفسه للتشفي ودرء الغيظ فأما المقتول فلم يكن له في القصاص منفعة كذا في تفسير الحدادي ولا كفارة في القتل العمد لقوله عليه السلام :"خمس من الكبائر لا كفارة فيها لإشراك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وقتل النفس عمداً واليمين الغموس" والولي مخير بين ثلاث في القتل العمد القصاص والدية والعفو وذلك لأن في شرع موسى عليه السلام القصاص وهو القتل فقط وفي دين عيسى عليه السلام العقل أو العفو فحسب وفي ملتنا للتشفي القصاص وللترفه الدية وللتكرم العفو وهو أفضل.
قال السعدي قدس سره :
٢٦٢
بدى رابدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن إلى من أسا


الصفحة التالية
Icon