والإشارة في الآية إلى البالغين الواصلين بالسير إلى الله أن يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} ووفقوا لمجرد الإيمان بالغيب ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني : سرتم بقدم السلوك في طلب الحق حتى صار الإيمان إيقاناً والإيقان إحساناً والإحسان عياناً والعيان غيباً وصار الغيب شهادة والشهادة شهوداً والشهود شاهداً والشاهد مشهوداً وبهما أقسم الله بقوله :﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ (البروج : ٣) فافهم جداً وهذا مقام الشيخوخة ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ عن حال المريدين وتثبتوا في الرد والقبول وفي قوله :﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ إشارة إلى أرباب الطلب في البدء والإرادة أي إذا تمسك أحد بذيل إرادتكم وألقى إليكم السلام بالانقياد والاستسلام لكم فلا تقولوا لست مؤمناً أي صادقاً مصدقاً في التسليم لأحكام الصحبة وقبول التصرف في المال والنفس على شرط الطريقة ولا تردوه ولا تنفروه بمثل هذه التشديدات وقولوا له كما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام ﴿فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا﴾ (طه : ٤٤) فما أنتم أعز من الأنبياء ولا المريد المبتدىء أذل من فرعون ولا يهولنكم أمر رزقه فتجتنبون منه طلباً للتخفيف وإلى هذا المعنى أشار بقوله :﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾ فلا تهتموا لأجل الرزق ﴿فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴿كَذَالِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ﴾ أي : كذلك كنتم ضعفاء في الصدق والطلب محتاجين إلى الصحبة والتربية بدواء الإرادة ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم والإقبال على تربيتكم وإيصال رزقكم إليكم وشفقتهم وعطفهم عليكم ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أن تردوا صادقاً اهتماماً لزرقه أو تقبلوا كاذباً حرصاً على تكثير المريدين ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾ في الأزل ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ اليوم من الرد والقبول والاحتياج إلى الرزق الذي تهتمون له ﴿خَبِيرًا﴾ بتقدير أمور قدرها في الأزل وفرغ منها كما قال عليه السلام :"إن الله فرغ من الخلق والرزق والأجل" وقال :"الضيف إذا نزل برزقه وإذا ارتحل ارتحل بذنوب مضيفة" كذا في "التأويلات النجمية" ﴿لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ﴾ عن الجهاد ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتها الإيذان من أول الأمر بعدم إخلال وصف القعود بإيمانهم والإشعار بعلة استحقاقهم كما سيأتي من الحسنى ﴿غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ﴾ بالرفع صفة للقاعدون.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٣
فإن قلت كلمة غير لا تتعرف بالإضافة فكيف جاز كونها صفة للمعرفة.
قلت : اللام في القاعدون للعهد الذهني فهو جار مجرى النكرة حيث لم يقصد به قوم بأعيانهم والأظهر أنه بدل من القاعدون.
والضرر المرض والعاهة من عمى أو عرج أو شلل أو زمانة أو نحوها وفي معناه العجز عن الأهبة، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها أي تكسرها ثم سري عنه وأزيل ما عرض له من شدة الوحي فقال :"اكتب فكتبت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" فقال ابن أم مكتوم وكان أعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فغشيته السكينة كذلك ثم سري عنه فقال :"اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر" قال زيد : أنزلها الله وحدها فألحقتها فالمراد
٢٦٥
بالقاعدين هم الأصحاء الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم لأن الغزو فرض كفاية قال ابن عباس رضي الله عنهما هم القاعدون عن بدر والخارجون إليها وهو الظاهر الموافق لتاريخ النزول ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ﴾ عطف على القاعدون ﴿فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ أي لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة في الأجر والثواب.
فإن قلت معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفي الاستواء.
قلت : فائدته تذكير ما بينهما من التفاوت العظيم ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه فإن انتفاء الاستواء بينهما يحتمل أن يكون بزيادة درجة أحدهما على درجة الآخر وبنقصانها فبين الله تعالى بهذه الجملة أن انتفاء استوائهما إنما هو بأنه تعالى فضل المجاهدين كأنه قيل : ما لهم لا يستوون فأجيب بذلك ﴿عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ غير أولي الضرر لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف ﴿دَرَجَةً﴾ تنوينها للتفخيم كما سيأتي ونصبها بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدرية لأنه لتضمنه معنى التفضيل ووقوعه موقع المرة من التفضيل كان بمنزلة أن يقال فضلهم تفضيلة واحدة ونظيره قولك ضربه سوطاً بمعنى ضربه ضربة